المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
259 [ 139 ] وعن عبد الله بن مسعود ; وأبي هريرة ; في تفسير : ولقد رآه نزلة أخرى [ النجم : 13 ] : أنه جبريل .

رواه مسلم ( 173 ) عن ابن مسعود و ( 175 ) عن أبي هريرة .


[ ص: 401 ] (58) ومن باب هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ؟

(قول عائشة للذي سألها عن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه : " لقد قف شعري لما قلت ") أي : قام من الفزع . قال أبو زيد : قف الرجل من البرد قفة ، والقفوف . القشعريرة . قال الخليل بن أحمد : القفقفة . الرعدة . قال ابن الأعرابي : تقول العرب عند إنكار الشيء . قف شعري واقشعر جلدي واشمأزت نفسي .

واختلف قديما وحديثا في جواز رؤية الله تعالى ، فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة ، وأهل السلف والسنة على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة ، ثم هل رأى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ربه أم لا ؟ اختلف في ذلك السلف والخلف ، فأنكرته عائشة وأبو هريرة وجماعة من السلف ، وهو المشهور عن ابن مسعود ، وإليه ذهب جماعة من المتكلمين والمحدثين . وذهبت طائفة أخرى من السلف إلى [ ص: 402 ] وقوعه وأنه رأى ربه بعينيه ، وإليه ذهب ابن عباس ، وقال : اختص موسى بالكلام وإبراهيم بالخلة ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية . وأبو ذر وكعب والحسن وأحمد بن حنبل . وحكي عن ابن مسعود وأبي هريرة في قول لهما آخر ، ومثل ذلك حكي عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه .

وذهبت طائفة من المشايخ إلى الوقف ، وقالوا : ليس عليه قاطع نفيا ولا إثباتا ، ولكنه جائز عقلا ، وهذا هو الصحيح ; إذ رؤية الله تعالى جائزة كما دلت عليها الأدلة العقلية والنقلية ، فأما العقلية ، فتعرف في علم الكلام . وأما النقلية فمنها سؤال موسى رؤية ربه ، ووجه التمسك بذلك علم موسى بجواز ذلك ، ولو علم استحالة ذلك ، لما سأله ، ومحال أن يجهل موسى جواز ذلك ; إذ يلزم منه أن يكون مع علو منصبه في النبوة ، وانتهائه إلى أن يصطفيه الله على الناس ، وأن يسمعه كلامه بلا واسطة ، جاهلا بما يجب لله تعالى ويستحيل عليه ويجوز ، ومجوز هذا كافر .

ومنها قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ القيامة : 22 - 24] ووجه التمسك بها امتنانه تعالى على عباده بالنظر إلى وجهه تعالى في الدار الآخرة ، وإذا جاز أن يروه فيها ، جاز أن يروه في الدنيا ; لتساوي الوقتين بالنظر إلى الأحكام العقلية .

ومنها : ما تواترت جملته في صحيح الأحاديث من أخباره - صلى الله عليه وسلم - لوقوع ذلك ; كرامة للمؤمنين في الدار الآخرة ، فهذه الأدلة تدل على جواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة والدنيا . ثم هل وقعت رؤية الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء أو لم تقع ؟ ليس في ذلك دليل قاطع ، وغاية المستدل على نفي ذلك أو إثباته التمسك [ ص: 403 ] بظواهر متعارضة معرضة للتأويل ، والمسألة ليست من باب العمليات ، فيكتفى فيها بالظنون ، وإنما هي من باب المعتقدات ، ولا مدخل للظنون فيها ; إذ الظن من باب الشك ; لأن حقيقته تغليب أحد المجوزين ، وذلك يناقض العلم والاعتقاد .

واختلفوا أيضا هل كلم محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا ؟ فذهب ابن مسعود وابن عباس وجعفر بن محمد وأبو الحسن الأشعري في طائفة من المتكلمين إلى أنه كلم الله بغير واسطة ، وذهبت جماعة إلى نفي ذلك . والكلام على هذه المسألة كالكلام على مسألة الرؤية سواء .

و (قول عائشة : " فقد أعظم الفرية على الله تعالى ") الفرية هي الافتراء ، وهو اختلاق الكذب وما يقبح التحدث به .

و ( قوله تعالى : بالأفق المبين [ التكوير : 23 ] ) الأفق : الجانب والناحية ، وجمعه آفاق ، ويقال : أفق بضم الفاء وسكونها . والمبين : البين الواضح . والضمير في ولقد رآه عائد إلى رسول ، وهو جبريل . وكذلك في قوله : ولقد رآه نزلة أخرى [ النجم : 13 ] وقد روت ذلك عائشة مرفوعا مفسرا على ما يأتي ، [ ص: 404 ] فلا يلتفت إلى ما يقال في الآية غير هذا . وأما استدلال عائشة بقوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] ففيه بعد ; إذ قد يقال بموجبه ، إذ يفرق بين الإدراك والإبصار ، فيكون معنى " لا تدركه " لا تحيط به ، مع أنها تبصره ، قاله سعيد بن المسيب . وقد بقي الإدراك مع وجود الرؤية في قول الله تعالى : فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا [ الشعراء : 61 - 62 ] ; أي : لا يدركونكم . وأيضا فإن الإبصار عموم وهو قابل للتخصيص ، فيخصص بالكافرين ، كما قال تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ المطففين : 15 ] ويكرم المؤمنون أو من شاء الله منهم بالرؤية ، كما قال تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ القيامة : 22 - 23 ] وبالجملة فالآية ليست نصا ولا من الظواهر الجلية ، فلا حجة فيها .

و " اللطيف " الكثير اللطف ، وهو في حق الله تعالى رفقه بعباده وإيصاله لهم ما يصلحهم بحيث لا يشعرون ، كما قال : إن ربي لطيف لما يشاء [ يوسف : 100 ] وأصله من اللطف في العمل وهو الرفق فيه ، وضده العنف ، والاسم منه اللطف بتحريك الطاء ، يقال : جاءتنا لطفة من فلان ; أي : هدية . و " الخبير " العليم بخبرة الأمور ; أي : ببواطنها وما يختبر منها ، يقال : صدق الخبر الخبر بضم الخاء ، ومنه قول أبي الدرداء . وجدت الناس اخبر تقله .

وأما استدلالها بقوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا [ الشورى : 21 ] [ ص: 405 ] فلا حجة فيه على نفي الرؤية ; إذ يقال بموجبها ، فإن مقتضاها نفي كلام الله على غير هذه الأحوال الثلاثة ، وإنما يصلح أن يستدل بها على نفي تكليم الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - مشافهة على ضعف في ذلك لا يخفى على متأمل ، بل قد استدل بعض المشايخ بهذه الآية على أن محمدا رأى ربه وكلمه دون واسطة ، فقال : هي ثلاثة أقسام . من وراء حجاب ، كتكليم موسى ، وبإرسال الملائكة ، كحال جميع الأنبياء . ولم يبق من تقسيم المكالمة إلا كونها مع المشاهدة ، وهذا أيضا فيه نظر .

و (قوله تعالى : فيوحي بإذنه ما يشاء [ الشورى : 51 ] ; أي : بأمره ، كما قال : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ البقرة : 255 ] وفي " يوحي " ضمير يعود على الرسول ، وفي " يشاء " ضمير يعود على الله تعالى ، ومعناه . فيلقي الرسول إلى الموحى إليه ما يشاؤه الله تعالى . و " العلي " ذو العلو ، وهو الرفعة المعنوية في حقه تعالى لا المكانية . والحكيم المحكم الأمور ، أو الكثير الحكمة . ومعنى مساق الآية . أنه تعالى منزه عن أن يتنزل كلامه أسماع كل السامعين ، بل يحكم الله كيفية إيصاله إلى النبيين والمرسلين .

[ ص: 406 ] وقولها : " ولو كان محمد كاتما شيئا لكتم هذه الآية : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك [ الأحزاب : 37 ] ، قد اجترأ بعض المفسرين في تفسير هذه الآية ونسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يليق به ويستحيل عليه ; إذ قد عصمه الله منه ، ونزهه عن مثله ، فقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هوي زينب امرأة زيد ، وربما أطلق بعض المجان لفظ " عشق " . ثم جاء زيد يريد تطليقها ، فقال له : أمسك عليك زوجك واتق الله ، وهو مع ذلك يحب أن يطلقها ليتزوجها . وهذا القول إنما يصدر عن جاهل بعصمته - عليه الصلاة والسلام - عن مثل هذا ، أو مستخف بحرمته . والذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين أن ذلك القول الشنيع ليس بصحيح ، ولا يليق بذوي المروءات ، فأحرى بخير البريات ، وأن تلك الآية إنما تفسيرها ما حكي عن علي بن حسين : أن الله تعالى أعلم نبيه بكونها زوجة له ، فلما شكاها زيد له وأراد أن يطلقها ، قال له : أمسك عليك زوجك واتق الله ، وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به مما هو مبديه بطلاق زيد لها وتزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - لها . ونحوه عن الزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري وغيرهم .

والذي خشيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو إرجاف المنافقين ، وأنه نهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج بزوجة ابنه ، ومساق الآية يدل على صحة هذا الوجه بقوله تعالى : ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له [ الأحزاب : 38 ] ولو كان ما ذكر أولئك ، لكان فيه أعظم الحرج ولقوله : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا [ الأحزاب : 37 ] وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية