المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
261 [ 141 ] وعن أبي ذر ; قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل رأيت ربك ؟ قال : نور أنى أراه . وفي رواية : رأيت نورا .

رواه مسلم ( 178 ) ، والترمذي ( 3278 ) .


[ ص: 407 ] و (قوله - عليه الصلاة والسلام - : " نور أنى أراه ") هكذا رويناه وقيدناه برفع " نور " وتنوينه ، وفتح " أنى " التي بمعنى " كيف " الاستفهامية ، ورواية من زعم أنه رواه : " نور إني " ليست بصحيحة النقل ولا موافقة للعقل ، ولعلها تصحيف . وقد أزال هذا الوهم الرواية الأخرى ، حيث قال : " رأيت نورا " ، ورفع " نور " على فعل مضمر تقديره : غلبني نور ، أو حجبني نور .

و " أنى أراه " استفهام على جهة الاستبعاد ; لغلبة النور على بصره كما هي عادة الأنوار الساطعة كنور الشمس ، فإنه يعشي البصر ، ويحيره إذا حدق نحوه ، ولا يعارض هذا : " رأيت نورا " ، فإنه عند وقوع بصره على النور رآه ، ثم غلب عليه بعد ، فضعف عنه بصره . ولا يصح أن يعتقد أن الله نور كما اعتقده هشام الجواليقي وطائفة المجسمة ممن قال : هو نور لا كالأنوار ; لأن النور لون قائم بالهواء ، وذلك على الله تعالى محال عقلا ونقلا .

[ ص: 408 ] فأما العقل فلو كان عرضا أو جسما ، لجاز عليه ما يجوز عليهما ، ويلزم تغيره وحدثه . وأما النقل فقوله تعالى : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] ولو كان جسما أو عرضا لكان كل شيء منهما مماثلا له .

وقول هذا القائل : " جسم لا كالأجسام " ، أو " نور لا كالأنوار " متناقض ، فإن قوله : " جسم " أو " نور " ، حاكم عليه بحقيقة ذلك ، و قوله : " لا كالأجسام " يعني لما أثبته من الجسمية والنورية ، وذلك متناقض ، فإن أراد أنه يساوي الأجسام من حيث الجسمية ومفارق لها من حيث وصف آخر ينفرد به ، لزمت تلك المحالات من حيث الجسمية ، ولم يتخلص منها بذكر ذلك الوصف الخاص ; إذ الأعم من الأوصاف تلزمه أحكام من حيث هو لا تلزم الأخص كالحيوانية والنطقية ، وتتميم هذا في علم الكلام .

و (قول ابن عباس : " أنه - عليه الصلاة والسلام - رآه بفؤاده مرتين ") الفؤاد : القلب . ولا يريد بالرؤية هنا : العلم ، فإنه - عليه الصلاة والسلام - كان عالما بالله على الدوام ، وإنما أراد أن الرؤية التي تخلق في العين خلقت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في القلب . وهذا على ما يقوله أئمتنا : إن الرؤية لا يشترط لها محل مخصوص عقلا ، بل يجوز أن يخلق في أي محل كان ، وإنما العادة جارية بخلقها في العين . وقول ابن عباس هذا خلاف ما حكيناه عنه من أنه رآه بعينه .

ولا يبعد الجمع بينهما في مذهبه ، فيقول : إنه رآه بقلبه وعينه . فأما اسم الله تعالى : النور ، فمعناه أنه هاد من ظلمات الجهالات ، كما أن النور المحسوس هاد في محسوس الظلمات . وقيل : معناه أنه منور السماوات والأرض وخالق الأنوار فيهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية