المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2897 (14) باب

المساقاة على جزء من الثمر والزرع

[ 1638 ] عن ابن عمر، قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج من تمر أو زرع، وكان يعطي أزواجه كل سنة مائة وسق ثمانين وسقا من تمر، وعشرين وسقا من شعير، فلما ولي عمر بن الخطاب قسم خيبر خير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن الأرض والماء، أو يضمن لهن الأوساق كل عام فاختلفن، فمنهن من اختار الأرض والماء، ومنهن من اختار الأوساق كل عام، فكانت عائشة وحفصة ممن اختارتا الأرض والماء.

رواه البخاري (2285)، ومسلم (1551) (2)، وأبو داود (3008)، وابن ماجه (2467).
[ ص: 413 ] (14) ومن باب المساقاة

وهي مأخوذة من السقي. وأصلها: تعاهد الأشجار بالماء. ثم قد صارت عبارة - بحكم العرف - عن العمل في الأشجار بما يصلحها من سقي، وإبار، وجداد، وغير ذلك من العمل الذي تصلح به الثمرة على جزء مسمى، يأخذه العامل من الثمرة. وقد اختلف العلماء في حكمها، ومحلها،

فأما حكمها: فالجواز عند مالك ، والشافعي ، وابن أبي ليلى ، وكثير من الكوفيين، تمسكا بهذه الأحاديث المذكورة في هذا الباب، وبقياسها على القراض. وهو متفق عليه؛ لأنها في معناه. ومنعها أبو حنيفة ، وزفر من أصحابه لما فيها من الغرر؛ ولأنها من باب: بيع الثمر قبل طيبه. وهو منهي عنه كما تقدم. وحمل أحاديث مساقاة خيبر على أن أهلها كانوا عبيدا للنبي صلى الله عليه وسلم فما أخذ فهو له، [ ص: 414 ] وهذا بناه على أن النبي صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة. وهذا غير مسلم له، فإن خيبر كانت قرى كثيرة؛ فمنها ما فتح عنوة، ومنها ما فتح صلحا؛ كذلك رواه مالك ومن تابعه، وهو قول ابن عقبة . ولو سلم: أنه فتحها عنوة فلا يسلم أن السيد يجوز له أن يعامل عبده بالربا، ولا أن يعاقده عقدا فاسدا بغرر أو مجهول. وقد نص في هذا: أنه عاقدهم عليها، وشرط عليهم، وشرطوا عليه. ولا يجوز أن يحمل ذلك على أنه انتزاع مال من أيديهم، لا لغة، ولا عرفا. فبطل ما قالوه.

وأما محلها: فمنعها داود في كل شيء إلا في النخل. والشافعي إلا في النخل، والكرم. وأجازها مالك في سائر الشجر؛ إذا احتاج للمساقاة. والمشهور عندنا: منعها في الزرع إلا إذا عجز عنه أهله. فأما داود : فقصرها على محل ورودها، وأما الشافعي : فبناه على أنها رخصة، ولا تتعدى الرخص. لكنه قد ألحق بالنخيل الكرم، مع أنه ليس فيه حديث صحيح. فإن كان ثبت عنده به نقل فقد صح له المشي على ذلك الأصل، وإن لم يثبت ذلك فليزمه مذهب داود . والإلحاق كما ذهب إليه مالك ؛ لأن الشجر كله في معنى النخل، من حيث إنه يحتاج إلى علاج، وعمل، وسقي إلى انتهاء الثمرة. وهي أصول قائمة ثابتة يدوم أمرها، وتدوم الحاجة إلى القيام عليها. ومن هنا فارقت الزرع القائم. فإن ألغينا هذا القيد؛ جازت فيه المساقاة على ما تقدم. والله تعالى أعلم.

وأما وقت انعقادها: فعند الشافعي ما لم تظهر الثمرة؛ لأنها إذا ظهرت فقد ملكها رب النخل، فإذا دفع جزأها في مقابلة العمل؛ فقد باع الثمرة قبل بدو صلاحها. وعند مالك : ما لم تطب، وإن كانت قد ظهرت. وعنه في ذلك بعد الطيب قولان. وأصله في ذلك: أن القراض، والمساقاة، عقدان مستثنيان من الإجارة المجهولة، للحاجة إلى ذلك، وللرفق الحاصل لرب المال والعامل؛ إذ ليس كل من له مال يحسن القيام عليه ولا العمل فيه، ثم من الناس من يحسن [ ص: 415 ] العمل ولا مال له. فاقتضت حكمة الشرع أن يرفق بكل واحد منهما على ما تيسر غالبا. ولما ظهر له ذلك طرد المعنى، فحيث دعت الحاجة إلى ذلك أعملها. وعلى هذا فتجوز المساقاة في النخل بعد الطيب. وفي الزرع إذا عجز عنه أهله. والله تعالى أعلم.

و ( قوله: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ) وفي لفظ آخر: (عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع) بإثبات لفظ: (أو) التي للتنويع. أو بمعنى: (الواو) كما قال في الرواية الأخرى: (على نصف ما يخرج منها من الثمر والزرع) بغير ألف، وظاهر هذا الحديث: أن أرض خيبر - أعني: بياضها - كان كثيرا، وأنه كان مقصودا له صلى الله عليه وسلم ولهم، وأنه ضم المساقاة في الأصول وكراء الأرض بما يخرج منها في عقد واحد. ويتمسك به من قال: يجوز كراء الأرض بجزء مما تنبت، كما تقدم. ويتمسك به أيضا من جوز أن يضم إلى المساقاة عقد غيرها.

قلت: والجمهور على ترك هذا الظاهر لما تقدم في منع كراء الأرض بجزء مما يخرج منها. وإذا منع ذلك منفردا للغرر والربا؛ كان أحرى، وأولى أن يمنع إذا اجتمع مع غيره مما يكثر فيه الغرر، ولما كان ذلك حمل الجمهور هذا على أحد محملين.

فأما مالك فقال: إن بياض خيبر كان قليلا تابعا للأصول بين أضعاف السواد، فجاز ذلك فيه لتبعية الأصول، وشرط في الجواز اتفاق البياض والأصول في الجزء. فلو اختلفا في الجزء لم يجز لزوال التبعية.

وقال غيره: يجوز أن يكون الذين ساقى غير الذين زارع. وتكون مزارعته لمن زارعه منهم على الوجه الجائز فيها، ثم إن الراوي نقل ذلك جملة، ولم يفصل كيف وقعت المزارعة، ولا من الذين سوقوا من الذين زورعوا، والله تعالى أعلم.

[ ص: 416 ] و ( قوله: وكان يعطي أزواجه كل سنة مائة وسق ) يريد بقسمته بينهن ألا تطالبه واحدة منهن بنفقة تلك السنة، وهذا - والله أعلم - كان بعد أن كان أزواجه طالبنه بالنفقة، وأكثرن عليه، كما تقدم في كتاب النكاح. ويدل هذا على أن ادخار ما يحتاج الإنسان إليه، ويعده للحاجات المتوقعة في الاستقبال، ليس قادحا في التوكل، ولا منقصا منه.

و ( قوله: فلما ولي عمر قسم خيبر ) يعني: قسم سهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان له بخيبر الذي كان وقفه النبي صلى الله عليه وسلم لمؤونة عياله وعامله بعد إجلاء عمر رضي الله عنه اليهود منها. وإنما أجلى عمر بن الخطاب اليهود والنصارى من الحجاز ؛ لأنهم لم يكن لهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم على بقائهم بالحجاز دائما، بل ذلك كان موقوفا على مشيئته، ولما عهد النبي صلى الله عليه وسلم عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب ، وانتهت النوبة إلى عمر ، أخرجهم من الحجاز إلى تيماء ، وأريحاء ، على ما يأتي، إن شاء الله تعالى.

التالي السابق


الخدمات العلمية