المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
287 (60) باب

ما خص به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من الشفاعة العامة لأهل المحشر

[ 146 ] عن أبي هريرة ; قال : أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما بلحم ، فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه ، فنهس منها نهسة ، فقال : أنا سيد الناس يوم القيامة . وهل تدرون بم ذلك ؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون ، فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه ؟ ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض : ائتوا آدم ، فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ! أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم : إن ربي - عز وجل - قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح . فيأتون نوحا ، فيقولون : يا نوح ! أنت أول الرسل إلى الأرض ، وسماك الله عبدا شكورا ، اشفع لنا إلى ربنا ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله .

وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى إبراهيم . فيأتون إبراهيم فيقولون : أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم إبراهيم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا ، لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله - وذكر كذباته - نفسي . نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى . فيأتون موسى ، فيقولون : يا موسى ! أنت رسول الله ، فضلك الله برسالاته وبكلامه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك . ألا ترى ما إلى نحن فيه ؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا ، لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها ، نفسي . نفسي . اذهبوا إلى عيسى . فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى! أنت رسول الله ، وكلمت الناس في المهد ، وكلمة منه ألقاها إلى مريم ، وروح منه ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا ، لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله . ولم يذكر له ذنبا ، نفسي . نفسي . اذهبوا إلى غيري . اذهبوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - . فيأتوني ، فيقولون : يا محمد ! أنت رسول الله ، وخاتم الأنبياء ، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر . اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي ، ثم يقال : يا محمد! ارفع رأسك ، سل تعطه ، اشفع تشفع . فأرفع رأسي فأقول : يا رب ! أمتي . أمتي . فيقال : يا محمد! أدخل الجنة من أمتك ، من لا حساب عليه ، من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس بسائر الأبواب . والذي نفس محمد بيده ! إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر . أو كما بين مكة وبصرى .


زاد في رواية - في قصة إبراهيم - قال : وذكر قوله في الكوكب : هذا ربي [ الأنعام : 77 ] وقوله لآلهتهم : بل فعله كبيرهم هذا [ الأنبياء : 63 ] ، وقوله : إني سقيم [ الصافات : 89 ] .

رواه البخاري ( 3340 ) ، ومسلم ( 194 ) ، والترمذي ( 2436 ) .


[ ص: 426 ] (60) ومن باب ما خص به نبينا - صلى الله عليه وسلم - من الشفاعة العامة

(قوله : " فنهس منها نهسة ") النهس بالسين المهملة أخذ اللحم بمقدم الأسنان ، وقد يقال عليه أيضا نهش بالمثلثة ، حكاه الجوهري ، وقيل : النهش بالأضراس ، قاله أبو العباس ، وقال غيره : هو نثر اللحم .

و (قوله : " أنا سيد الناس ") أي : المقدم عليهم . و " السيد " هو الذي يسود قومه ; أي : يفوقهم بما جمع من الخصال الحميدة ، بحيث يلجأون إليه ويعولون عليه في مهماتهم ، قال الشاعر :


فإن كنت سيدنا سدتنا وإن كنت للخال فاذهب فخل

وقد تحقق كمال تلك المعاني كلها لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المقام الذي يحمده ويغبطه فيه الأولون والآخرون ، ويشهد له بذلك النبيون والمرسلون . وهذه حكمة عرض الشفاعة على خيار الأنبياء ، فكلهم تبرأ منها . ودل على غيره ، إلى أن بلغت محلها ، واستقرت في نصابها .

ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للذراع ; لنضج لحمها وسرعة استمرائها وزيادة [ ص: 427 ] لذتها ، ولبعدها عن موضع الأثفال .

و " الصعيد " المستوي من الأرض . " الثرى " هو التراب . ثعلب : هو وجه الأرض .

و (قوله : " فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر ") معناه : أنهم مجتمعون مهتمون بما هم فيه لا يخفى منهم أحد ، بحيث إن دعاهم داع سمعوه ، وإن نظر إليهم ناظر أدركهم . ويحتمل أن يكون الداعي هو الذي يدعوهم إلى العرض والحساب أو أمر آخر ، كقوله تعالى : يوم يدع الداع إلى شيء نكر [ القمر : 6 ] .

و (قوله : " خلقك الله بيده ") اعلم أن الله تعالى منزه عن يد الجارحة كما قد قدمناه . واليد في كلام العرب تطلق على القدرة والنعمة والملك . واللائق هنا حملها على القدرة ، وتكون فائدة الاختصاص لآدم : أنه تعالى خلقه بقدرته ابتداء من غير سبب ولا واسطة خلق ولا أطوار قلبه فيها ، وذلك بخلاف غيره من ولده ، ويحتمل أن يكون شرفه بالإضافة إليه ، كما قال : بيتي . وقد قدمنا أن التسليم في المشكلات أسلم .

و (قوله : " ونفخ فيك من روحه ") الروح هنا هو المذكور في قوله : تنزل الملائكة والروح [ القدر : 4 ] [ ص: 428 ] و نزل به الروح الأمين [ الشعراء : 193 ] وشرفه بالإضافة كما قال : فنفخنا فيه من روحنا [ التحريم : 12 ] وهو جبريل على قول أكثر المفسرين ; أي : كان كل واحد منهما من نفخة الملك ، فصار المنفوخ فيه ذا روح من ريح نفخته ، ولا يلتفت إلى ما يقال غير هذا . وقد تقدم أن غضب الله عبارة عن انتقامه وحلول عذابه .

والشفاعة أصلها : الضم والجمع ، ومنه ناقة شفوع ، إذا جمعت بين حلبتين في حلبة واحدة ، وناقة شافع ، إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها . و " الشفع " ضم واحد إلى واحد . و " الشفعة " ضم ملك الشريك إلى ملكك . فالشفاعة إذن ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك ، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال منفعة إلى المشفوع له ، وسيأتي ذكر أقسامها .

و " الشكور " الكثير الشكر ، وهو من أبنية المبالغة ، وأصل الشكر الظهور ، ومنه دابة شكور ، إذا كانت يظهر عليها من السمن فوق ما تأكله من العلف ، وأشكر الضرع ، إذا ظهر امتلاؤه باللبن ، والسماء بالمطر ، فكأن الشاكر يظهر القيام بحق المنعم ، ولذلك قيل : الشكور هو : الذي ظهر منه الاعتراف بالنعمة ، والقيام بالخدمة ، وملازمة الحرمة .

[ ص: 429 ] و (قوله : " كانت لي دعوة دعوت بها على قومي " ) يريد قوله : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح : 26 ] وإبراهيم بالسريانية هو الأب الرحيم ، حكاه المفسرون .

والخليل الصديق المخلص ، والخلة بضم الخاء الصداقة والمودة ، ويقال فيها أيضا . خلالة بالضم والفتح والكسر ، والخلة بفتح الخاء . الفقر والحاجة ، والخلة بكسرها واحدة خلل السيوف وهي بطائن أغشيتها ، والخلل الفرجة بين الشيئين ، والجمع الخلال .

واختلف في الخليل اسم إبراهيم - عليه السلام - من أي هذه المعاني والألفاظ أخذ ؟ فقيل : إنه مأخوذ من الخلة بمعنى الصداقة ، وذلك أنه صدق في محبة الله تعالى ، وأخلص فيها حتى آثر محبته على كل محبوباته ، فبذل ماله للضيفان وولده للقربان ، وجسده للنيران . وقيل : من الخلة التي بمعنى الفقر والحاجة ، وذلك أنه افتقر إلى الله في حوائجه ولجأ إليه في فاقته ، حتى لم يلتفت إلى غيره ، بحيث آلت حاله إلى أن قال له جبريل وهو في الهواء حين رمي في المنجنيق : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك ، فلا . وقيل : من الخلل بمعنى الفرجة بين الشيئين ، ذلك لما تخلل قلبه من معرفة الله تعالى ومحبته ومراقبته ، حتى كأنه مزجت أجزاء قلبه بذلك . وقد أشار إلى هذا المعنى بعض الشعراء ، فقال :


قد تخللت مسلك الروح مني     ولذا سمي الخليل خليلا

ولقد جمع هذه المعاني وأحسن من قال في الخلة : إنها صفاء المودة التي توجب الاختصاص بتخلل الأسرار ، والغنى عن الأغيار .

و (قوله : " إنما كنت خليلا من وراء وراء ") أي : إنما كنت خليلا متأخرا عن [ ص: 430 ] غيري ; إشارة إلى أن كمال الخلة ، إنما تصح لمن يصح له في ذلك اليوم المقام المحمود الذي يحمده الأولون والآخرون ، وذلك لم يصح ولا يصح إلا لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - . " وراء وراء " صحيح الرواية فيه بالمد والفتح ، وكأنه مبني على الفتح ; لتضمنه الحرف ، كما قالت العرب : هو جاري بيت بيت ; أي : بيته إلى بيتي ، فكأنه قال في الحديث : من ورائي إلى ورائي . ونحوه : خمسة عشر ، وسائر الأعداد المركبة ، ومنه قولهم : هي همزة بين بين ، وأتيتك صباح مساء ، ويوم يوم ، وتركوا البلاد حيث بيث ، وحاث باث ; ونحو ذلك .

وقد زعم بعض النحويين المتأخرين أن الصواب الضم فيهما ، واستدل على ذلك بما أنشده الجوهري في الصحاح :


إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن     لقاؤك إلا من وراء وراء

قلت : ولا شك أن السماع في هذا البيت بالضم فيهما ، ووجهه ما نبه عليه الأخفش ; حيث قال : لقيته من وراء ، فترفعه على الغاية ، كقولك : من قبل ومن بعد ، فنبه على أن : وراء الأولى ، إنما بنيت لقطعها عن الإضافة ، وأما الثانية : فيحمل أن تكون كالأولى على تقدير حذف " من " لدلالة الأولى عليها ، ويحتمل أن تكون الثانية تأكيدا لفظيا للأولى . ويجوز أن تكون بدلا منها ، أو عطف بيان عليها . كما قالوا : يا نصر نصر على تكلف . وقد وجدت في أصل شيخنا أبي الصبر أيوب بن محمد الفهري السبتي : من وراء ، من وراء بتكرار " من " وفتح الهمزتين . وكان رحمه الله تعالى قد اعتنى بهذا الكتاب غاية الاعتناء ، وقيده تقييدا حسنا .

فلا يصح أن يقال : إن ذلك بناء على الوجه الأول ، لوجود من المضمنة في الوجه الأول ، وإنما محمله على أن " وراء " قطعت عن الإضافة ، ولم تقصد قصد مضاف بعينه ، فصارت كأنها اسم علم ، وهي مؤنثة ، فيجتمع فيها [ ص: 431 ] التعريف والتأنيث ، فيمتنع الصرف . وإنما قلنا : إن " وراء " مؤنثة ; لما قال الجوهري : إنها مؤنثة لأنهم قالوا في تصغيرها : وريئة . وعلى هذا : فهمزتها ليست للتأنيث ، ولأن همزة التأنيث لا تقع ثالثة . وقد وجدت في بعض المعلقات بخط معتبر . قال الفراء : تقول العرب : فلان يكلمني من وراء وراء ، بالنصب على الظرف ، ومن وراء وراء ، بجعل الأولى ظرفا والثانية غاية . ومن وراء وراء بجعلهما غايتين . ومن وراء وراء تضيف الأولى إلى الثانية وتمنع الثانية من الجر . ومن وراء وراء على البناء . وحكى ثعلب عن بعض الناس : أنهم قالوا : من وراء وراء بالتنوين فيهما .

و (قوله : " وذكر كذباته ") قد فسرها في الرواية الأخرى ، بما ليس كذبا على التحقيق ، ونحن نذكرها ونبينها إن شاء الله تعالى . فمنها قوله في الكوكب : هذا ربي [ الأنعام : 76 ] ذكر المفسرون أن ذلك كان منه في حال الطفولية في أول حال استدلاله ، ثم إنه لما تكامل نظره ; وتم على السداد وضح له الحق ، قال : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا [ الأنعام : 79 ] .

قال الشيخ - رحمه الله - : وهذا لا يليق بالأنبياء ; لأن الله تعالى خصهم بكمال العقل والمعرفة بالله عز وجل ، وسلامة الفطرة والحماية عن الجهل بالله تعالى والكفر من أول نشوئهم وإلى تناهي أمرهم ، إذ لم يسمع عن واحد منهم أنه اعتقد مع الله إلها آخر ، ولا اعتقد محالا على الله تعالى ، ولا ارتكب شيئا من قبائح أممهم الذين أرسلوا إليهم ، لا قبل النبوة ولا بعدها . ولو كان شيء من ذلك لقرعهم بذلك أممهم لما دعوهم إلى التوحيد ، ولاحتجوا عليهم بذلك ، ولم ينقل شيء من ذلك . وأما بعد إرسالهم فكل ذلك محال عليهم عقلا على ما نبينه .

[ ص: 432 ] وقيل : إنه - عليه الصلاة والسلام - قال ذلك لقومه على جهة الاستفهام الذي يقصد به التوبيخ لهم ، والإنكار عليهم ، وحذفت همزة الاستفهام اتساعا ، كما قالت العرب :


لعمرك ما أدري وإني لحاسب     بسبع رميت الجمر أم بثمان

وقال آخر :


رفوني وقالوا : يا خويلد لم ترع     فقلت : وأنكرت الوجوه هم هم

أي : أهم أهم .

وقيل : إنما قال ذلك على طريق الاحتجاج على قومه ; تنبيها على أن ما يتغير لا يصلح للربوبية .

ومنها قوله لآلهتهم : بل فعله كبيرهم هذا [ الأنبياء : 63 ] إنما قاله ممهدا للاستدلال على أنها ليست آلهة ، وقطعا لقومه في قولهم : إنها تضر وتنفع . وهذا الاستدلال والذي قبله يتحرر من الشرط المتصل ، ولذلك أردف على قوله : بل فعله كبيرهم [ الأنبياء : 63 ] ، قوله : فاسألوهم إن كانوا ينطقون [ الأنبياء : 63 ] ، وعند ذلك قالوا : لقد علمت ما هؤلاء ينطقون [ الأنبياء : 65 ] فقال لهم : أفتعبدون من دون الله الآية [ الأنبياء : 66 ] ، فحقت كلمته وظهرت حجته .

[ ص: 433 ] ومنها قوله : إني سقيم [ الصافات : 89 ] هذا تعريض ، وحقيقته أنه سيسقم ، واسم الفاعل بمعنى المستقبل كثير ، ويحتمل أن يريد به أنه سقيم الحجة على الخروج معكم ; إذ كان لا يصح على جواز ذلك حجة .

ومنها ما جاء في حديث إبراهيم أنه قال قوله لزوجه سارة حين دخل أرض الجبار فسئل عنها فقال : إنها أختي . وصدق ، فإنها أخته في الإسلام ، وكذلك جاء عنه منصوصا أنه قال : إنما أنت أختي في الإسلام .

وعلى الجملة فأوجه هذه الأمور واضحة وصدقها معلوم على الأوجه المذكورة ، فليس في شيء منها ما يقتضي عتابا ولا عقابا ، لكن هول المقام وشدة الأمر حمله على ذلك الخوف منها ، وأيضا فلنتبين درجة من يقول : نفسي نفسي من درجة من يقول : أمتي أمتي .

و " موسى " سمي بذلك ; لأنه وجد بين موشى بالعبرية ; أي : الماء والشجر فعرب ، والجمع موسون في الرفع ، وبالياء في النصب والجر عند البصريين ، وعند الكوفيين موسون بضم السين وموسين بكسرها .

و (قوله : " وفضلك الله برسالاته وبكلامه ") هذه إشارة إلى قوله تعالى : إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي [ الأعراف : 144 ] ولا خلاف بين أهل السنة في أن موسى سمع كلام الله الذي لا يشبهه كلام البشر الذي ليس بصوت ولا حرف ، ولو سمعه بالحرف والصوت لما صحت خصوصية الفضيلة لموسى بذلك ; إذ قد سمع كلامه تعالى بواسطة الحرف والصوت المشترك ، كما قال تعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [ التوبة : 6 ] واستيفاء الكلام على هذه المسألة سؤالا وجوابا في كتب الكلام .

[ ص: 434 ] و (قوله : " وكلمت الناس في المهد ") أي : صغيرا في الحال الذي تمهد له فيها موضعه ليضجع عليه لصغره .

و (قوله : " وكلمة منه ") قال ابن عباس : سماه كلمة ; لأنه كان بكلمة " كن " من غير أن يتقلب في أطوار الخلق كما تقلب غيره . " وألقاها إلى مريم " أي : أبلغها إليها . وقد تقدم الكلام في وصفه - عليه السلام - بأنه روح الله .

و (قوله : " غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ") اختلف الناس في عصمة الأنبياء من الذنوب اختلافا كثيرا . والذي ينبغي أن يقال : إن الأنبياء معصومون مما يناقض مدلول المعجزة عقلا ، كالكفر بالله تعالى ، والكذب عليه ، والتحريف في التبليغ والخطأ فيه ، ومعصومون من الكبائر وعن الصغائر التي تزري بفاعلها ، وتحط منزلته وتسقط مروءته إجماعا عند القاضي أبي بكر ، وعند الأستاذ أبي بكر أن ذلك مقتضى دليل المعجزة . وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم .

واختلف أئمتنا في وقوع الصغائر منهم ، فمن [ ص: 435 ] قائل : بالوقوع ، ومن قائل بمنع ذلك . والقول الوسط في ذلك : أن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها ، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها واستغفروا وتابوا . وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا تقبل التأويلات بجملتها ، وإن قبل ذلك آحادها .

لكن الذي ينبغي أن يقال : إن الذي أضيف إليهم من الذنوب ليس من قبيل الكبائر ولا مما يزري بمناصبهم على ما تقدم ، ولا كثر منهم وقوع ذلك ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم ، وعوتبوا عليها يخف أمرها بالنسبة إلى غيرهم ، وإنما عددت عليهم وعوتبوا عليها بالنسبة إلى مناصبهم وإلى علو أقدارهم ; إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس . ولقد أحسن الجنيد حيث قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فهم وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم ، فلم يخل ذلك بمناصبهم ، ولا قدح ذلك في رتبتهم ، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم ، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إلى يوم الدين - والكلام على هذه المسألة تفصيلا يستدعي تطويلا ، وفيما ذكرناه كفاية ، والله الموفق للهداية .

و (قوله : " فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا ") قد زاد عليه في حديث أنس : " فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي ، فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد ، ثم أخر [ ص: 436 ] ساجدا " . وبمجموع الحديثين يكمل المعنى ، ويعلم مراعاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لآداب الحضرة العلية . ثم اعلم أن هذا الانطلاق من النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو إلى جنة الفردوس التي هي أعلى الجنة ، وفوقها عرش الرحمن كما جاء في الصحيح ; بناء على أن لا محل هناك إلا الجنة والنار ، وعلى أن العرش محيط بأعلى الجنة ، والله تعالى أعلم .

ولا شك في أن دخول الجنة هو المحل الكريم ، لا بد فيه من استئذان الخزنة ، وعن هذا عبر بقوله - عليه الصلاة والسلام - : " فأستأذن على ربي " ، ولا يفهم من هذا ما جرت به عاداتنا في أن المستأذن عليه قد احتجب بداره وأحاطت به جهاته ، فإذا استؤذن عليه فأذن ، دخل المستأذن معه فيما أحاط به ; إذ كل ذلك على الله محال ، فإنه منزه عن الجسمية ولوازمها على ما تقدم .

والعرش في أصل اللغة الرفع ، ومنه قوله : معروشات وغير معروشات [ الأنعام : 141 ] ; أي : مرفوعات القضبان ، قاله ابن عباس ، أو مرفوعات الحيطان على قول غيره ، ومنه سمي السرير وسقف البيت عرشا ، ويقال : لما يستظل به عرش وعريش ، وإضافته إلى الله تعالى على جهة الملك أو التشريف ، لا لأن الله استقر عليه أو استظل به كما قد توهمه بعض الجهال في الاستقرار ، وذلك على الله محال ; إذ يستحيل عليه الجسمية ولواحقها .

تنبيه : في حديث أبي هريرة : إن المحامد كانت بعد السجود ، وفي حديث أنس قبل السجود في حالة القيام ، وذلك يدل على أنه - عليه الصلاة والسلام - أكثر من التحميد والثناء في هذا المقام كله في قيامه وسجوده إلى أن أسعف في طلبته .

[ ص: 437 ] و (قوله : " فأقول يا رب أمتي أمتي ، فيقال : يا محمد ، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه ") هذا يدل على أنه شفع فيما طلبه من تعجيل حساب أهل الموقف ، فإنه لما أمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته ، فقد شرع في حساب من عليه حساب من أمته وغيرهم ، ولذلك قال في الرواية الأخرى : " فيؤذن له وترسل الأمانة والرحم ، فيقومان جنبتي الصراط " . هذا المساق أحسن من مساق حديث معبد عن أنس ، فإنه ذكر فيه عقيب استشفاعه لأهل الموقف أنه أجيب بشفاعته لأمته ، وليست الشفاعة العامة التي طلب منه أهل الموقف . وكأن هذا الحديث سكت فيه عن هذه الشفاعة فذكرت شفاعته لأمته ; لأن هذه الشفاعة هي التي طلبت من أنس أن يحدث بها في ذلك الوقت ، وهي التي أنكرها أهل البدع ، والله أعلم .

قال القاضي عياض : شفاعات سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة أربع :

الأولى : شفاعته العامة لأهل الموقف ; ليعجل حسابهم ويراحوا من هول موقفهم ، وهي الخاصة به - صلى الله عليه وسلم - .

الثانية : في إدخال قوم الجنة دون حساب .

الثالثة : في قوم من موحدي أمته استوجبوا النار بذنوبهم ، فيخرجون من النار ويدخلون الجنة بشفاعته ، وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة الخوارج والمعتزلة ، فمنعتها على أصولهم الفاسدة ، وهي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين والتقبيح العقليين ، وتلك الأصول قد استأصلها أئمتنا في كتبهم أنها مصادمة لأدلة الكتاب والسنة الدالة على وقوع الشفاعة في الآخرة . ومن تصفح الشريعة والكتاب والسنة وأقوال الصحابة وابتهالهم إلى الله تعالى في الشفاعة علم على الضرورة صحة ذلك وفساد قول من خالف في ذلك .

الرابعة : في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها .

[ ص: 438 ] و (قوله : " أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه ") يعني به - والله أعلم - : السبعين ألفا الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون . ومن الباب الأيمن هو الذي عن يمين القاصد إلى الجنة بعد جواز الصراط - والله أعلم - وكأنه أفضل الأبواب .

و (قوله : " هم شركاء الناس بسائر الأبواب ") يحتمل أن يعود هذا الضمير إلى الذين لا حساب عليهم ، وهو الظاهر ويكون معناه أنهم لا يلجؤون إلى الدخول من الباب الأيمن ، بل من أي باب شاؤوا ، كما جاء في حديث أبي بكر ، حيث قال : فهل على من يدعى من تلك الأبواب من ضرورة ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : " لا ، وأرجو أن تكون منهم " . وكما قال - عليه الصلاة والسلام - فيمن أسبغ الوضوء وهلل بعده : " أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء " . ويحتمل أن يعود على الأمة ، وفيه بعد . و " المصرعان " ما بين عضادتي البابين ، والباب : المغلق .

و (قوله : " لكما بين مكة وهجر ، أو كما بين مكة وبصرى ") يحتمل أن [ ص: 439 ] يكون شكا من بعض الرواة ، ويحتمل أن يكون تنويعا ، كأنه - عليه الصلاة والسلام - قال : إذا رأى ما بينهما ، قدره راء بكذا ، وقدره آخر بكذا ، ويصح أن يقال : سلك بها مسلك التخيير ، فكأنه قال : قدروها إن شئتم بكذا ، وإن شئتم بكذا ، وإن شئتم بكذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية