المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2956 (24) باب تحريم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام

[ 1671 ] وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بالمدينة فقال: "يا أيها الناس، إن الله يعرض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرا، فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به". قال: فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع". فاستقبل الناس ما كان عندهم منها في طريق المدينة فسفكوها.

رواه مسلم (1578).
[ ص: 455 ] (24) ومن باب تحريم بيع الخمر

(قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يعرض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرا ، هذا التعريض، وهذا التوقع إنما فهمه النبي صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [البقرة: 219] ومن قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [النساء: 43] وذلك: أنه لما سمع أن فيهما إثما كبيرا، وأن إثمهما أكبر من نفعهما، وأنه قد منع من الصلاة في حال السكر؛ ظهر له: أن هذا مناسب للمنع منها، فتوقع ذلك.

و (قوله: فمن كان عنده منها شيء فليبعه، ولينتفع به ) فيه دليل على أن الخمر وبيعها كانا مباحين إباحة متلقاة من الشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر أصحابه عليها، وليس ذلك من باب البقاء على البراءة الأصلية؛ لأن إقراره دليل الجواز والإباحة، كما قررناه في الأصول. وفيه دليل على اغتنام فرصة المصالح المالية إذا عرضت، وعلى صيانة المال، وعلى بذل النصيحة والإشارة بأرجح ما يعلمه من الوجوه المصلحية.

و (قوله: فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم الخمر، فمن [ ص: 456 ] أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب، ولا يبع ) يعني بالآية: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان [المائدة: 90] الآية، وسيأتي الحديث عليها.

ويعني بقوله: ( من أدركته ) أي: من بلغته وهو بصفات المكلفين من العقل والبلوغ. وقد فهمت الصحابة رضي الله عنهم من نهيه عن الشرب والبيع: أنها لا ينتفع بها بوجه من الوجوه، ولذلك بادروا إلى إراقتها، وإتلافها. ولو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لنبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، كما نبه على ما في جلد الميتة من المنفعة؛ لما قال: (هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به) وعلى هذا: فلا يجوز تخليلها، ولا أن تعالج بالملح والسمك فيصنع منها المري. وإلى منع ذلك ذهب الجمهور: مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وغيرهم. وحكي جواز تخليلها عن أبي حنيفة ، والأوزاعي ، والليث . وقد دل على فساد هذا ما ذكرناه آنفا، وما يأتي من نهيه عن اتخاذ الخمر خلا . وسيأتي مزيد بيان على هذا.

قال القاضي عياض : وفي هذا أيضا: منع الانتفاع بها للتداوي ، وغير ذلك من العطش عند عدم الماء، ولتجويز لقمة غص بها. وهو قول مالك ، والشافعي ، وغيرهم. وأجاز ذلك أبو حنيفة ، وأحمد . وقاله بعض أصحابنا. وروي عن الشافعي : جوازه أيضا إذا خاف التلف، وقاله أبو ثور .

قلت: وإذا امتنع الانتفاع بها مطلقا فلا يصح تملكها لمسلم، ولا تقر في يديه، بل تتلف عليه. ويجب ذلك عليه. ويتلفها الوصي على اليتيم. وقد ذكر ابن [ ص: 457 ] خواز منداذ من قدماء أصحابنا العراقيين: أنها تملك، ونزع إلى ذلك: بأنها يمكن أن يزال بها الغصص، ويطفأ بها الحريق، فتملك لذلك. وهذا نقل لا يعرف لمالك ، ولا يلتفت لشيء مما قيل هنالك؛ لأنا لا نسلم جواز ذلك، على ما ذكرناه آنفا فيمن غص بلقمة. ولو سلمنا ذلك فلا يلتفت إليه لندوره، وعدم وقوعه. وإنما ذلك تجويز وهمي، وتقدير، فاعتباره وسواس أعرض النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه، ولم يلتفتوا إلى شيء منه.

التالي السابق


الخدمات العلمية