صفحة جزء
بسم الله الرحمن الرحيم

(1) مقدمة تلخيص صحيح الإمام مسلم

قال الشيخ الفقيه ، الإمام العالم المحدث ، أبو العباس ابن الشيخ الفقيه أبي حفص عمر ، الأنصاري القرطبي - رحمه الله - :

الحمد لله بمجامع محامده التي لا يبلغ منتهاها ، والشكر له على آلائه ، وإن لم يكن أحد أحصاها .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة محقق أصولها محيط بمعناها ، وأشهد أن محمدا رسول حل من ربا النبوة أعلاها فعلاها ، وحمل من أعباء الرسالة إدها ، فاضطلع بها وأداها ، فجلا الله به عن البصائر رينها ، وعن الأبصار عشاها ، صلى الله عليه من الصلوات أفضلها وأزكاها ، وأبلغه عنا من التحيات أكملها وأولاها ، ورضي الله عن عترته وأزواجه وصحابته ما سفرت شمس عن ضحاها ، وبعد :

فلما قضت نتائج العقول ، وأدلة الشرع المنقول : أن سعادة الدارين منوطة بمتابعة هذا الرسول ، وأن المحبة الحقيقية باقتفاء سبيله واجبة الحصول قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني [ آل عمران : 31 ] انتهضت همم أعلام العلماء ، والسادة الفضلاء ، إلى البحث عن آثاره : أقواله وأفعاله وإقراره ، فحصلوا ذلك ضبطا وحفظا ، وبلغوه إلى غيرهم مشافهة ونقلا . وميزوا صحيحه من سقيمه ، ومعوجه من مستقيمه ، إلى أن انتهى ذلك إلى إمامي علماء الصحيح ، المبرزين في علم التعديل والتجريح : أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري ، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ، فجمعا كتابيهما على شرط الصحة ، وبذلا جهدهما في تبرئتهما من كل علة ، فتم لهما المراد ، وانعقد الإجماع على تلقيبهما باسم الصحيحين أو كاد ، فجازاهما الله عن الإسلام أفضل الجزاء ، ووفاهما من أجر من انتفع بكتابيهما أفضل الإجزاء .

غير أنه قد ظهر لكثير من أئمة النقل ، وجهابذة النقد : أن لمسلم ولكتابه من المزية ; ما يوجب لهما أولوية ; فقد حكى القاضي أبو الفضل عياض الإجماع على إمامته وتقديمه ، وصحة حديثه ، وتميزه ، وثقته ، وقبول كتابه . وكان أبو زرعة وأبو حاتم يقدمانه في الحديث على مشايخ عصرهما .

وقال أبو علي الحسن بن علي النيسابوري : ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم .

وقال أبو مروان الطيبي : كان من شيوخي من يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري .

وقال مسلم بن قاسم في تاريخه : مسلم جليل القدر ، ثقة ، من أئمة المحدثين ، وذكر كتابه في الصحيح ، فقال : لم يضع أحد مثله .

وقال أبو حامد بن الشرقي : سمعت مسلما يقول : ما وضعت شيئا في هذا المسند إلا بحجة ، وما أسقطت منه إلا بحجة .

وقال ابن سفيان : قال مسلم : ليس كل الصحيح وضعت هنا ، إنما وضعت ما أجمعوا عليه .

وقال مسلم : لو أن أهل الحديث يكتبون الحديث مائتي سنة ، فمدارهم على هذا المسند ، ولقد عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي ; فكل ما أشار إلى أن له علة تركته ، وما قال : هو صحيح ليس له علة أخرجته .

هذا مع أن الكتاب أحسن الأحاديث مساقا ، وأكمل سياقا ، وأقل تكرارا ، وأتقن اعتبارا ، وأيسر للحفظ ، وأسرع للضبط ، [مع] أنه ذكر صدرا من علم الحديث ، وميز طبقات المحدثين في القديم والحديث .

ولما كان هذا الكتاب بهذه الصفة ، ومصنفه بهذه الحالة ، ينبغي أن يخص بفضل عناية ; من تصحيح وضبط ورواية ; وحفظ وتفقه ودراية .

إذ الاعتناء بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرف الأقدار ; وينهض الحجة ويسدد الاعتبار ; وينفع البصائر ، ويفتح الأبصار ; ويميز [عن]الجهلة ، ويلحق بالأئمة الأبرار ، ويدخل الجنة وينجي من النار .

وقد أعان الكريم الوهاب على الاعتناء بهذا الكتاب ، فتلقيته رواية وتقييدا عن جماعة من أعلام العلماء ; وثافنت في التفقه فيه بعض سادات الفقهاء .

فممن رويت عنه :

الشيخ الفقيه القاضي المحدث الثقة الثبت ، أبو الحسن علي ابن الشيخ الزاهد الفاضل ، المحدث المقيد ; أبي عبد الله محمد بن علي بن حفص اليحصبي ، قراءة عليه ، وهو يمسك أصله نحو المرتين ، في مدة آخرها شعبان سنة سبع وستمائة .

والشيخ الفقيه القاضي الأعدل ، العلم الأعلم ، أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن حوط الله ، قراءة عليه ، وسماعا لكثير منه ، وإجازة لسائره ، وذلك بقرطبة في مدة آخرها ما تقدم :

قالا جميعا : حدثنا الشيخ الإمام الحافظ ، أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال ، قراءة عليه ، عن أبي بحر بن سفيان بن القاضي ، سماعا لجميعه إلا ورقات من آخرها أجازها له ، عن أبي العباس العذري ، قراءة غير مرة ، عن أبي العباس بن بندار الرازي ، سماعا بمكة ، قال :

حدثنا أبو أحمد بن عمرويه بن الجلودي ، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن أبي الحسين مسلم رحمهم الله .

وقد رويته عن غير واحد من الثقات الأعلام ، قراءة وإجازة بمصر وغيرها ، عن الشيخ الشريف أبي المفاخر سعيد بن الحسين المأموني الهاشمي سماعا ، عن الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الصاعدي الفراوي ، سماعا ، عن الشيخ أبي الحسين عبد الغافر الفارسي ، سماعا ، عن أبي أحمد ; كما تقدم .

وقد رويته عن جماعة كثيرة ; بأسانيد عديدة ، وفيما ذكرناه كفاية ، والله الموفق للهداية .

ولما تقاصرت الهمم في هذا الزمان عن بلوغ الغايات ; من حفظ جميع هذا الكتاب ; بما اشتمل عليه من الأسانيد والروايات ، أشار من إشارته غنم ; وطاعته حتم إلى تقريبه على المتحفظ ; وتيسيره على المتفقه ; بأن نختصر أسانيده ، ونحذف تكراره ، وننبه على ما تضمنته أحاديثه بتراجم تسفر عن معناها ، وتدل الطالب على موضعها وفحواها .
[ ص: 85 ] (1) باب

ما تضمنته خطبة الكتاب وصدره من المعاني والغريب

(قوله : " الحمد لله ") الحمد لغة : هو الثناء على مثنى عليه بما فيه من أوصاف الجلال والكمال .

والشكر والثناء بما أولى من الإنعام والإفضال ، وقد يوضع الحمد موضع الشكر ، ولا ينعكس ; والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح .

قال الشاعر :


أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا

قال ابن الأنباري : الحمد مقلوب المدح ، والألف واللام في الحمد : إذا نسبتا إلى الله تعالى : للجنس ، أي : الحمد كله له ; وهذا أولى من قول من قال : إنهما للعهد ; بدليل خصوصية نسبته إلى هذا الاسم الذي هو أعم الأسماء دلالة وأشهرها استعمالا ; ألا ترى أنهم لم يقولوا : الحمد للملك ، ولا للحق ؟! ولأنه لم يجر ذكر معهود قبله فيحمل عليه .

[ ص: 86 ] والمحامد : جمع محمدة ، بكسر الميم ; كما قال الأحنف بن قيس : ألا أدلكم على المحمدة بلا مرية ؟ الخلق السجيح ، والكف عن القبيح .

وكان قياس ميم المحمدة التي هي عين الفعل : أن تكون مفتوحة ; لأن قياس الأفعال الثلاثية التي يكون الماضي منها على فعل مكسور العين : أن يكون الفعل منها مفتوح العين في المصدر والزمان والمكان ; كالمشرب ، والمعلم ، والمجهل ، لكن شذت عنهم كلمات .

قال أبو عمر الزاهد : لم يأت على مثال فعلت مفعلة إلا قولهم : حمدت محمدة ، وحميت محمية ، أي : عصمت ، وحسبت محسبة ، ووددت موددة ، وأنشد الراجز :


ما لي في صدورهم من موددة

وزاد غيره : كبرت مكبرة ومكبرا ; كما قال أعشى همدان :


طلبت الصبا لما علاني المكبر

وحكى ابن البياتي في " كتابه الكبير " في ميم المحمدة الفتح ، ونقل عن ابن دريد : محمدة ومحمدة ، بالكسر والفتح ، وقاله أيضا ابن سيده .

وقال بعضهم : إن المحامد جمع حمد على غير قياس ; كالمفاقر جمع فقر ، والأول أولى ; لأن ما ليس بقياس لا يقاس عليه ; إذ الجمع بينهما متناقض ، وقد جمع الحمد جمع القلة في قول الشاعر :


وأبلج محمود الثنايا خصصته     بأفضل أقوالي وأفضل أحمد



و (قوله : التي لا يبلغ منتهاها ) أي : لعجز البشر عن الإحصاء ; لقصور علمهم [ ص: 87 ] عن الإحاطة بصفات الحق تعالى وأسمائه ; كما قال - عليه الصلاة والسلام - : " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .

و " الآلاء " : النعم ، واحده : إلى ; كمعى وأمعاء ، وقيل : ألى ; كقفا وأقفاء ; قال الشاعر :


أبيض لا يرهب الهزال ولا     يقطع رحما ولا يحوز إلى

يروى بالوجهين ، وقيل : إلي ; كحسي وأحساء .

و (قوله : " وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ") أي : أنطق بما أعلمه وأتحققه .

وأصل الشهادة : الإخبار عما شاهد المخبر بحسه ، ثم قد يقال على ما يحققه الإنسان ويتقنه وإن لم يكن شاهدا للحس ; لأن المحقق علما كالمدرك حسا ومشاهدة .

و (قوله : " شهادة محقق أصولها ، محيط بمعناها ") :

أصول الشهادة : أدلتها العقلية والسمعية .

والإحاطة تعني هاهنا : العلم بمعناها في اللغة ، وفي عرف الاستعمال .

و " محمد " : مفعل من الحمد ، وهو الذي كثرت خصاله المحمودة ; قال الشاعر :


. . . . .     إلى الماجد القرم الجواد المحمد

ولما لم يكن في الأنبياء ولا في الرسل من له من الخصال المحمودة ما [ ص: 88 ] لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ، خصه الله من بينهم بهذا الاسم ; كيف لا ، وهو الذي يحمده أهل المحشر كلهم ، وبيده لواء الحمد ، تحته آدم فمن دونه ; على ما يأتي ؟!

و " الربا " : جمع ربوة ، وهو ما ارتفع من الأرض وطاف ، وفيها لغات : فتح الراء وضمها وكسرها ، وقد قرئ بها .

وقيل : رباوة : بفتح الراء وزيادة الألف ، قال الشاعر :


من منزلي في عرصة برباوة     بين النخيل إلى بقيع الغرقد

و " النبوة " : مأخوذة من النبأ ، وهو الخبر ، فأصلها إذا الهمز ، ثم سهلت كما سهلوا خابية ، وهي من خبأت ، وقيل : هي مأخوذة من النبوة ، وهو المرتفع عن الأرض .

و " الأعباء " : جمع عبء ، وهو الثقل ، وأصله : ما يحمله الإنسان مما يشق ويثقل من عزم أو مشقة .

و " إدها " : أثقلها وأشقها ; في " الصحاح " : آدني الحمل يؤودني ، أي : أثقلني ، ومؤدد مثل مقول ، يقال : ما آدني فهو لي آئد .

قلت : ومنه قوله تعالى : ولا يئوده حفظهما [ البقرة: 255 ] أي : لا يثقله ولا يشق عليه .

و (قوله : " فاضطلع بها ") أي : قام بها وقوي عليها ، وهو بالضاد المعجمة أخت الصاد ; من قولهم : ضلع الرجل - بضم اللام - ضلاعة ، فهو ضليع ، أي : قوي وصلب . فأما ضلع - بفتح اللام - فمعناه : اعوج ، ومصدره : الضلع بفتحها ، واسم الفاعل من هذا أو من الذي قبله : ضالع .

و " جلا " معناه : كشف ، ومنه : جلوت السيف والعروس جلاء .

و " البصائر " : جمع بصيرة ، وهي عبارة عن سرعة إدراك المعاني وجودة فهمها .

[ ص: 89 ] و " رين " القلب : ما يغلب عليه مما يفسده ويقسيه ، وهو المعبر عنه بالطبع والختم في قول أهل السنة .

و " العشا " بفتح العين والقصر : ضعف في البصر ، وبكسرها والمد : الوقت المعروف ، وبفتحها والمد : ما يؤكل في هذا الوقت ، مقابل الغداء .

و " أزكاها " : أكثرها وأنماها ; من قولهم : زكا الزرع يزكو .

و " التحيات " : جمع تحية ; وهي هنا السلام ، وأصل التحية : الملك ، ومنه قولهم : حياك الله ، أي : ملكك الله ، قاله القتبي .

و " العترة " : الذرية والعشيرة ، القربى والبعدى ، وليس مخصوصا بالذرية ; كما قد ذهب إليه بعضهم حتى قال : إن عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي ولد فاطمة خاصة .

ويدل على صحة القول الأول : قول أبي بكر - رضي الله عنه - فيما رواه ابن قتيبة : " نحن عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي خرج منها ، وبيضته التي تفقأت عنه ، وإنما جيبت عنا كما جيبت الرحا عن قطبها " .

و " سفرت " : كشفت ، يقال : سفرت الشيء سفرا كشفته ; ومنه سفرت المرأة عن وجهها سفورا : إذا أزالت خمارها ، وأما أسفر الصبح : فأضاء ، وأسفر القوم : ساروا في إسفار من الصبح .

و " الضحى " : صدر النهار ، بالضم والقصر ، وهي حين شروق الشمس ، وهي مؤنثة ، فأما الضحاء ، بالمد : فارتفاع النهار الأعلى ، وهو مذكر ; قاله أبو عبيد .

و " النتائج " جمع نتيجة ، وكني بها هنا عن البراهين العقلية ، فإنها قضت بما ذكرناه جوازا وإمكانا .

و " أدلة الشرع " : هي أخباره الصادقة ; فإنها قضت بذلك وقوعا وعيانا .

[ ص: 90 ] و " سعادة الدارين " : هي نيل مراتبهما ومصالحهما ، ونفي مفاسدهما .

و " منوطة " : معلقة ، يقال : ناط الشيء ينوطه : إذا علقه ; والإشارة به إلى نحو قوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ آل عمران : 31 ] والهداية الحقيقية هي فعل الطاعات الشرعية ، والحصول على ما وعد عليها من الدرجات الأخروية ; والإشارة إلى نحو قوله تعالى : وإن تطيعوه تهتدوا [ النور : 54 ] ; وتجوز بالحقيقة عن الهداية التي هي مجرد الإرشاد والدلالة التي هي نحو قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم [ فصلت : 17 ] .

و " الاقتفاء " : التتبع ; من قولهم : اقتفيت أثره وقفوته ، وأصله من القفا والقافية .

و (قوله : " واجبة الحصول ") أي : بحسب الوعد الصدق والاشتراط الحق ; نحو ما تقدم . ولا يجب على الله تعالى شيء ، لا بالعقل ولا بالشرع ; فإن ذلك كله محال على ما يعرف في علم الكلام .

و " الأعلام " : المشاهير ، جمع علم .

و " السادة " : جمع سيد ، وهو الذي يسود غيره ، أي : يتقدم عليه بما فيه من خصال الكمال والشرف . وآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - : هي ما يؤثر عنه وينقل ، أي : يتحدث بما فيه من حسن خصال الكمال من قولهم : أثرت الحديث أثرة .

و (قوله : " وميزوا صحيحه من سقيمه ") : اختلفت عبارات المحدثين في أقسام الحديث ، فقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري : وهو المعروف بابن [ ص: 91 ] البيع في كتاب " المدخل " له : الصحيح من الحديث على عشرة أقسام : خمسة متفق عليها ، وخمسة مختلف فيها :

فالأول : من المتفق عليه : اختيار البخاري ومسلم ، وهو ألا يذكرا من الحديث إلا ما رواه صحابي مشهور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، له راويان فأكثر ، ثم يرويه عنه تابعي مشهور الرواية عن الصحابة ، له هو أيضا راويان فأكثر ; وكذلك من بعدهم ، حتى ينتهي الحديث إليهما .

قال : والأحاديث المروية بهذه الشريطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف .

الثاني : مثل الأول ; لكن ليس لراويه من الصحابة إلا راو واحد .

الثالث : مثله ; إلا أن راويه ليس له من التابعين إلا راو واحد .

الرابع : الأحاديث الأفراد الغرائب التي رواها الثقات العدول .

الخامس : أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ، ولم تتواتر الرواية عن آبائهم وأجدادهم إلا عنهم ; كصحيفة عمرو بن شعيب ، وبهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، وأبان بن معاوية بن قرة ، عن أبيه ، عن جده ، وأجدادهم صحابة ، وأحفادهم ثقات .

قال : فهذه الأقسام الخمسة مخرجة في كتب الأئمة ، محتج بها ; وإن لم يخرج في الصحيحين منها شيء . قلت : يعني غير القسم الأول .

قال الحاكم : والخمسة المختلف فيها : المراسيل . وأحاديث المدلسين إذا لم يذكروا سماعاتهم ، وما أسنده ثقة وأرسله جماعة من الثقات غيره . ورواية الثقات عن الحفاظ العارفين . ورواية المبتدعة إذا كانوا صادقين .

قلت : هذا تلخيص ما ذكره ، وعليه فيه مؤاخذات سيأتي بعضها .

وأشبه من تقسيمه : ما قاله الخطابي أبو سليمان ، قال : الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام : صحيح ، وحسن ، وسقيم :

فالصحيح : ما اتصل سنده ، وعدلت نقلته .

والحسن : ما عرف مخرجه ; [ ص: 92 ] واشتهر رجاله ; وعليه مدار أكثر الحديث ، وهو الذي نقله العلماء ، ويستعمله عامة الفقهاء .

والسقيم : على طبقات ، شرها الموضوع والمقلوب ، ثم المجهول .

وقال أبو عيسى الترمذي : كل حديث حسن إسناده ، ولا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ، ولا يكون الحديث شاذا ، وروي عن غير وجه ونحو ذلك : فهو عندنا حسن .

وقال أبو علي الغساني : الناقلون سبع طبقات :

الأولى : أئمة الحديث وحفاظه ، وهم الحجة على من خالفهم ، ويقبل انفرادهم .

الثانية : دونهم في الحفظ والضبط ; ولكنهم لحقهم في بعض روايتهم وهم وغلط . والغالب على حديثهم الصحة ، ويصحح ما وهموا فيه من رواية الطبقة الأولى ، وهم لاحقون بهم .

الثالثة : جنحت إلى مذاهب من الأهواء غير غالية ولا داعية ، وصح حديثها ، وثبت صدقها ، وقل وهمها ; فهذه الطبقة احتمل أهل الحديث الرواية عنهم .

قال : وعلى هذه الطبقات الثلاث يدور الحديث ; وإليها أشار مسلم في صدر كتابه لما قسم الحديث على ثلاثة أقسام ، وثلاث طبقات ، فلم يقدر له إلا الفراغ من الطبقة الأولى ، واخترمته المنية .

وثلاث طبقات أسقطهم أهل المعرفة :

الأولى : من وسم بالكذب ، ووضع الحديث .

الثانية : من غلب عليهم الوهم والغلط حتى تستغرق روايتهم .

الثالثة : من غلا في البدعة ، ودعا إليها ، وحرف الرواية ليحتجوا بها .

والسابعة : قوم مجهولون ، انفردوا بروايات لم يتابعوا عليها ; فقبلهم قوم ، ووقفهم آخرون .

قلت : وهذا التقسيم أشبه مما قبله .

[ ص: 93 ] وعليه : فالصحيح : حديث الطبقة الأولى ، والحسن : حديث الطبقة الثانية ، وهو حجة ; لسلامته عن القوادح المعتبرة ، وأما حديث الطبقة الثالثة : فاختلف في حديثها ; على ما يأتي .

وأما الطبقات الثلاث بعدها فهم متروكون ، ولا يحتج بشيء من حديثهم ، ولا يختلف في ذلك .

ويلحق بهم السابعة في الترك ، ولا يبالى بقول من قبلهم ; إذ لا طرائق إلى ظن صدقهم ; إذ لا تعرف روايتهم ولا أحوالهم ; ومع ذلك فقد أتوا بالغرائب والمناكير ، فإحدى العلتين كافية في الرد ، فكيف إذا اجتمعتا ؟!

و (قوله : " ومعوجه من مستقيمه ") : أشار بالمعوج إلى ما كان منها منكر المتن ، ولم يشبه كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ; كما قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب " العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " : إن من الأحاديث الموضوعات أحاديث طوالا لا يخفى وضعها ، وبرودة لفظها ; فهي تنطق بأنها موضوعة ، وأن حاشية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترق عنها .

وقال الشيخ : وإلى هذا النحو أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " إذا حدثتم عني بحديث تعرفونه ولا تنكرونه ، فصدقوا به ، وما تنكرونه ، فكذبوا به ; فأنا أقول ما يعرف ولا ينكر ، ولا أقول ما ينكر ولا يعرف ; خرجه الدارقطني ; من حديث ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة .

و " المبرز " : هو المطل على الشيء الخارج عنه ، وهو اسم فاعل من برز [ ص: 94 ] مشدد الراء ، وأصله من برز حقيقة ، بمعنى : خرج إلى البراز - بفتح الباء - ، وهو الفضاء المتسع من الأرض ، وضوعف تكبيرا .

" البخاري " : هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه ، وبردزبه : مجوسي مات عليها ، والمغيرة بن بردزبه أسلم على يدي يمان البخاري الجعفي والي بخارى ، ولذلك نسب أبو عبد الله البخاري ، فقيل فيه : جعفي ، فهو الجعفي ولاء ، والبخاري بلدا . وهو العلم المشهور ، والحامل لواء علم الحديث المنشور ، صاحب التاريخ الصحيح ، المرجوع إليه في علم التعديل والتجريح ، أحد حفاظ الإسلام ، ومن حفظ الله به حديث رسوله عليه الصلاة والسلام ، رحل في طلب الحديث إلى القرى والأمصار ، وبالغ في الجمع منه والإكثار ، لقي من كان في عصره من العلماء والمحدثين ، وأدرك جماعة أدركوا التابعين ; كمكي بن إبراهيم البلخي ، وأبي عاصم النبيل ، ومحمد بن عبد الله الأنصاري ، وعصام بن خالد الحمصي ، وهم أدركوا متأخري التابعين . ارتحل إلى عراق العرب والعجم ، وإلى مصر والحجاز واليمن ، وسمع بها من خلق كثير ربما يزيدون على الألف باليسير . قال جعفر بن محمد بن القطان : سمعت محمد بن إسماعيل يقول : كتبت عن ألف شيخ أو أكثر ، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده .

روى عنه جمع كبير من الأئمة الحفاظ ; كأبي حاتم الرازي ، ومسلم بن الحجاج القشيري ، وأبي عيسى الترمذي ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ، وأبي حامد بن الشرقي ، وإبراهيم بن إسحاق الحربي ، في آخرين يطول ذكرهم .

وروى عنه الجامع الصحيح : أبو حيان مهيب بن سليم الدقاق ، وإبراهيم بن معقل النسفي ، ومحمد بن يوسف بن مطر الفربري ، وهو آخرهم ، وقال محمد بن يوسف الفربري : سمع كتاب البخاري تسعون ألف رجل ، فما بقي أحد يرويه غيري .

ومولد البخاري يوم الجمعة بعد صلاتها لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال [ ص: 95 ] سنة أربع وتسعين ومائة ، وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء من ليلة الفطر من شوال ، سنة ست وخمسين ومائتين ، وعمره : اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يوما .

شهد له أئمة عصره بالإمامة في حفظ الحديث ونقله ، وشهدت له تراجم كتابه بفهمه وفقهه .

قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة : ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من البخاري .

وقال له مسلم بن الحجاج ، وقد سأله عن علل الأحاديث ، فأجابه ، فقال له : لا يبغضك إلا حاسد ، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك .

وقال أبو بكر الجوزقي : سمعت أبا حامد بن الشرقي أو غيره يقول : رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي البخاري كالصبي بين يدي معلمه .

وقال حامد بن أحمد : ذكر لعلي بن المديني قول محمد بن إسماعيل البخاري : ما تصاغرت نفسي عند أحد إلا عند علي ابن المديني ، فقال : ذروا قوله هو ، ما رأى مثل نفسه .

وذكر أبو أحمد بن عدي : أن البخاري لما قدم بغداد امتحنه المحدثون بأن قلبوا أسانيد مائة حديث ، فخالفوا بينها وبين متونها ، ثم دفعوها لعشرة أنفس ، لكل واحد عشرة أحاديث ، فلما استقر به المجلس ، قام إليه واحد من العشرة ، فذكر له حديثا من عشرته المقلوبة ، فسأله عنه ، فقال له البخاري : لا أعرف هذا . ثم سأله عن بقية العشرة واحدا واحدا ، وهو في كل ذلك يقول : لا أعرف . ثم قام بعده ثان ففعل له مثل ذلك ، ثم قام ثالث كذلك ، حتى كمل العشرة المائة الحديث . فلما فرغوا ، دعا بالأول ، فرد ما ذكر له من الأحاديث إلى أسانيدها ، ثم فعل ببقية العشرة كذلك ، إلى أن رد كل متن إلى سنده ، وكل سند إلى متنه ، فبهت الحاضرون ، وأعجب بذلك السامعون ، وسلموا لحفظه ، واعترفوا بفضله .

وقال الدارقطني : لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء .

وقال أحمد بن محمد الكرابيسي : رحم الله الإمام أبا عبد الله البخاري ، فإنه الذي ألف الأصول ، وبين للناس ، وكل من عمل بعده فإنما أخذه من كتابه ; كمسلم بن الحجاج ، فرق كتابه في [ ص: 96 ] كتبه ، وتجلد فيه حق الجلادة ، حيث لم ينسبه إلى قائله ، ومنهم من أخذ كتابه فنقله بعينه ; كأبي زرعة ، وأبي حاتم .

فقال محمد بن الأزهر السجزي : كنت بالبصرة في مجلس سليمان بن حرب ، والبخاري جالس لا يكتب ، فقال بعضهم : ما له لا يكتب ؟ فقال : يرجع إلى بخارى فيكتب من حفظه .

وقال محمد بن حمدويه : سمعت البخاري يقول : أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، وأعرف مائتي ألف حديث غير صحيح .

وأخباره كثيرة ، ومناقبه شهيرة ، وإمامته وعدالته وأمانته متواترة ، كل ذلك من حاله معروف ، ومن فضله موصوف .

والعجب مما ذكره أبو محمد بن أبي حاتم في ترجمة البخاري ، فقال : إن أبي وأبا زرعة تركاه - يعني البخاري - لأنه قال : لفظي بالقرآن مخلوق ، ولم ينقل شيئا من فضائله ، وكأنه أعرض عنه وصغر أمره .

قلت : وهذا ترك يجب تركه ، وتصغير يتعين ضده ، كيف ينزل مثل هذا الإمام ، لحق أظهره في الأنام ، وتطاع فيه أهواء الطغام ؟!

وقد ذكر ابن عدي هذه القصة ، فقال : عقد له المجلس بنيسابور ، فدس عليه سائل ، فقال : يا أبا عبد الله ، ما تقول : لفظي بالقرآن مخلوق ؟ فأعرض عنه ، فألح عليه ، فقال : القرآن قد تم غير مخلوق ، وأفعال العباد مخلوقة ، والسؤال عنه بدعة .

وهذا الذي قاله - رضي الله عنه - هو غاية التحقيق والتحرز ، ولكن نسأل الله العافية من إصابة عين الحساد ، ومناكدة الأضداد ولا شك ، إلا أن الرجل علم فضله ، وكثر الناس عليه فحسد .

قال علي بن صالح بن محمد البغدادي مستملي البخاري : كان يجتمع في مجلس البخاري أكثر من عشرين ألفا .

قال المصعب : محمد بن إسماعيل أفقه عندنا من أحمد بن حنبل ، ولو أدركت مالكا ونظرت إلى وجهه ، ووجه محمد بن [ ص: 97 ] إسماعيل ، لقلت : كلاهما في الفقه والحديث واحد .

وقال يعقوب بن إبراهيم الدورقي : محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة .

وأما " مسلم " : فيكنى أبا الحسين بن الحجاج ، قشيري النسب ، نيسابوري الدار .

وقد ذكر في صدر الكتاب الملخص - الذي هذا شرحه - من أقوال العلماء في مسلم من الثناء عليه وعلى كتابه : جملة صالحة ، بحيث إذا قوبلت بما قيل في البخاري وفي كتابه كانت مكافئة لها أو راجحة عليها .

والحاصل من معرفة أحوالهما أنهما فرسا رهان ، وأنهما ليس لأحد في حلبتهما بمسابقتهما ولا مساوقتهما يدان . سمع مسلم بخراسان ، وارتحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر كارتحال البخاري .

وسمع من يحيى بن يحيى التميمي ، وقتيبة بن سعيد البلخي ، وإسحاق بن راهويه ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، والقعنبي ، ومسلم بن إبراهيم ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن بشار ، ومحمد بن المثنى ، وخلقا كثيرا يطول ذكرهم .

روى عنه : إبراهيم بن سفيان الزاهد المروزي ، وأبو محمد أحمد بن علي بن الحسن القلانسي ، ولا يروى كتابه إلا من طريقهما . وروى عنه أيضا : مكي بن عبدان ، ويحيى بن محمد بن صاعد ، ومحمد بن مخلد ، وآخرون .

توفي عشية يوم الأحد ، ودفن يوم الإثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين ، وقد وافى سن الكهولة ، مات وهو ابن خمس وخمسين سنة .

و (قوله : " فجمعا كتابيهما على شرط الصحة ") : هذا هو الصحيح الحاصل من أشراط البخاري ومسلم في كتابيهما . قال إبراهيم بن معقل : سمعت البخاري [ ص: 98 ] يقول : ما أدخلت في كتاب " الجامع الصحيح " إلا ما صح ، وقد تركت من الصحيح خوفا من التطويل .

وقال أبو الفرج بن الجوزي : ونقل عن محمد بن إسماعيل أنه قال : صنفت كتاب الصحيح في ست عشرة سنة من ستمائة ألف حديث ، وجعلته حجة بيني وبين الله تعالى .

وقال لي الفربري : قال لي محمد بن إسماعيل : ما وضعت في كتاب " الصحيح " حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك ، وصليت ركعتين .

وقال عبد القدوس بن هشام : سمعت عشرة من المشايخ يقولون : دون محمد بن إسماعيل تراجم جامعه بين قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين منبره ، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين .

وقال الحسين بن محمد الماسرجسي : سمعت أبي يقول : سمعت مسلم بن الحجاج يقول : صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة .

وقال إبراهيم بن سفيان : قال لي مسلم : ليس كل صحيح وضعت هنا ، وإنما وضعت ما أجمعوا عليه .

فهذه نصوصهما على أن شرطهما إنما هو الصحيح فقط .

وأما ما ادعاه الحاكم عليهما من الشرط الذي قدمنا حكايته عنهما : فشيء لم يصح نقله عنهما ، ولا سلم له النقاد ذلك ; بل قد قال أبو علي الجياني لما حكى عنه ما ادعاه من الشرط : ليس مراده به أن يكون كل خبر روياه يجتمع فيه راويان عن صحابييه وتابعييه ومن بعده ; فإن ذلك يعز وجوده ، وإنما المراد : أن هذا الصحابي وهذا التابعي قد روى عنه رجلان خرج بهما عن حد الجهالة .

قلت : فقد بطل ظاهر ما قاله الحاكم بما قاله أبو علي ; فإن حاصل ما قاله أبو علي : أنهما لم يخرجا عن مجهول من الرواة ، على أن أبا أحمد بن عدي ذكر شيوخ البخاري ، وذكر منهم أقواما لم يرو عنهم إلا راو واحد ، وسماهم عينا عينا ، وقال : لم يرو عنهم إلا راو واحد ، وليسوا بمعروفين ، فلولا التطويل لنقلنا عنه ما قاله .

وعلى هذا : فشرطهما : أن يخرجا في كتابيهما ما صح عندهما وفي ظنونهما ، ولا يلزم من [ ص: 99 ] ذلك نفي المطاعن عن كل من تضمنه كتاباهما ; فقد يظهر لغيرهما من النقاد ما خفي عنهما ، لكن هذا المعنى المشار إليه قليل نادر لا اعتبار به لندوره .

و (قوله : " وبذلا جهدهما في تبرئتهما من كل علة ") : الجهد ، بضم الجيم : الطاقة والوسع ، وبفتحها : المشقة ، ويعني بذلك : أنهما قد اجتهدا في تصحيح أحاديث كتابيهما غاية الاجتهاد ، غير أن الإحاطة والكمال ، لم يكملا إلا لذي العظمة والجلال ، فقد خرج النقاد - كأبي الحسن الدارقطني وأبي علي الجياني - عليهما في كتابيهما أحاديث ضعيفة وأسانيد عليلة ، لكنها نادرة قليلة ، وليس فيها حديث متفق على تركه ، ولا إسناد مجمع على ضعفه ، لكنها مما اختلف فيه ، ولم يلح لواحد منهما في شيء منها قدح فيخفيه ، بل ذلك على حسب ما غلب على ظنه ، وحصل في علمه ، وأكثر ذلك مما أردفاه على إسناد صحيح قبله ; زيادة في الاستظهار ، وتنبيها على الإشهار ، والله أعلم .

وسيأتي التنبيه على بعض تلك الأحاديث ، إن شاء الله تعالى .

(فقوله : " فتم لهما المراد ، وانعقد الإجماع على تلقيبهما باسم الصحيحين أو كاد ") : هذه " أو كاد " : معطوفة على " تم لهما المراد " ، وتحرزنا بها عن الأحاديث المعللة المنتقدة عليهما ; كما ذكرناه آنفا .

وأما انعقاد الإجماع على تسميتهما بالصحيحين : فلا شك فيه ; بل قد صار ذكر " الصحيح " علما لهما ، وإن كان غيرهما بعدهما قد جمع الصحيح واشترط الصحة ; كأبي بكر الإسماعيلي الجرجاني ، [ ص: 100 ] وأبي الشيخ ابن حيان الأصبهاني ، وأبي بكر البرقاني ، والحاكم أبي عبد الله ، وإبراهيم بن حمزة ، وأبي ذر الهروي ، وغيرهم ، لكن الإمامان أحرزا قصب السباق ، ولقب كتاباهما بالصحيحين بالاتفاق ; قال أبو عبد الله الحاكم : أهل الحجاز والعراق والشام يشهدون لأهل خراسان بالتقدم في معرفة الحديث ; لسبق الإمامين : البخاري ومسلم إليه ، وتفردهما بهذا النوع .

و " الجهابذة " : جمع جهبذ ، وهو : الحاذق بالعمل ، الماهر فيه .

وقول مسلم : ليس كل الصحيح وضعت هنا ، وإنما وضعت ما أجمعوا عليه ، يعني به - والله أعلم - : من لقيه من أهل النقد والعلم بالحديث ، والله أعلم .

[ ص: 101 ] و (قوله : " وميز طبقات المحدثين في القديم والحديث ") : يعني بالقديم : من تقدم زمان مسلم ، وبالحديث : زمان من أدركه .

وهذا إشارة إلى قول مسلم في صدر كتابه : أنه يعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيقسمها على ثلاثة أقسام ، وثلاث طبقات ، قال : أما القسم الأول ، فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى ; من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث ، وإتقان لما نقلوا ، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ، ولا تخليط متفاحش .

[ ص: 102 ] وإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف ، أتبعناها أخبارا في إسنادها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان ، كالضرب المتقدم ، على أنهم - وإن كانوا فيما وصفنا دونهم - فإن اسم الستر وتعاطي العلم والصدق يشملهم ; كعطاء بن السائب ، ويزيد بن أبي زياد ، وليث بن أبي سليم ، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية ، يفضلونهم في المنزلة والحال ; ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة ، عطاء ، ويزيد ، وليثا ، بمنصور بن المعتمر وسليمان الأعمش ، وإسماعيل بن أبي خالد ، وجدتهم مباينين لهم في المنزلة لا يدانونهم ، لا شك عند العلماء في ذلك . وذكر كلاما في معناه إلى أن قال : فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون ، أو عند الأكثر ، فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم ; كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدايني ، وعمرو بن خالد ، وعبد القدوس الشامي ، ومحمد بن سعيد المصلوب ، وغياث بن إبراهيم ، وسليمان بن عمرو ، وأبي داود النخعي وأشباههم ممن اتهم بوضع الحديث ، وتوليد الأخبار ، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط ، أمسكنا عنهم .

قال المؤلف رحمه الله تعالى : وظاهر هذا أن مسلما أدخل في كتابه الطبقتين المتقدمتين : الأولى والثانية ، غير أن أبا عبد الله الحاكم قال : إن مسلما لم يدخل في كتابه إلا أحاديث الطبقة الأولى فقط ، وأما الثانية والثالثة : فكان قد عزم على أن يخرج حديثهما ، فلم يقدر له إلا الفراغ من الطبقة الأولى ، واخترمته المنية .

قال المؤلف رحمه الله تعالى : ومساق كلامه لا يقبل ما قاله الحاكم ; فتأمله .

[ ص: 103 ] و (قوله : " وثافنت في التفقه فيه بعض سادات الفقهاء ") أي : جالست ، وأصله من الثفنات ، وهو ما يتناثر من الرجلين والركبتين واليدين من تكرار الجلوس والعمل ; يقال : ثفنت اليد ثفنا : غلظت من العمل ، وواحد الثفنات : ثفنة ، وأصلها : ما يقع من البعير على الأرض ، ويغلظ عند الإشاخة .

[ ص: 104 ] و (قولنا : " وقد رويته عن غير واحد من الثقات الأعلام ، قراءة وإجازة ") : أعني بذلك : أني قرأته كله على الشيخ الفقيه الزاهد الفاضل ، تقي الدين أبي إبراهيم عوض بن محمود ، بمصر .

وممن أجازه لي : الشيخ الفقيه المحدث ، الزاهد التلاء للقرآن ، أبو الحسين مرتضى بن العفيف المقدسي ، لقيته بقرافة مصر ، وسمعت عليه ، وقرأت عليه ، وأجاز لي جميع رواياته .

ومنهم : القاضي فخر القضاة أبو الفضل بن الحباب ، أجازه لي .

وكلهم يحدث به عن الشيخ أبي المفاخر المأموني بالسند المذكور في أصل " التلخيص " .

[ ص: 105 ] فاستعنت بالله تعالى ، وبادرت إلى مقتضى الإشارة ; بعد أن قدمت في ذلك دعاء النفع به والاستخارة ، فاقتصرت من الإسناد على ذكر الصاحب إلا أن تدعو الحاجة إلى ذكر غيره فأذكره لزيادة فائدة ; وحصول عائدة ، ومن تكرار المتون على أكملها مساقا ، وأحسنها سياقا ، ملحقا به ما في غيره من الرواية ; محافظا إن شاء الله تعالى ألا أغفل منه شيئا من مهمات الفوائد ; فإذا قلت : عن أبي هريرة مثلا ، وأفرغ من مساق متنه ، وقلت : وفي رواية ; فأعني : أنه عن ذلك الصاحب المتقدم من غير ذلك الطريق . وربما قدمت بعض الأحاديث وأخرت حيثما إليه اضطررت ; حرصا على ضم الشيء لمشاكله ; وتقريبا له على متناوله .

وقد اجتهدت ; فيما رويت ورأيت ; ووجه الله الكريم قصدت ، وهو المسؤول ; في أن ينفعني به وكل من اشتغل به ، ويبلغنا المأمول ، وأن يجعلنا وإياه من العلماء العاملين ; الهداة المهتدين ، وهو المستعان ، وعليه التكلان ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية