المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3099 (2) باب

لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد

[ 1741 ] عن عمران بن حصين قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق قال: يا محمد، فأتاه، فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني، وبم أخذت سابقة الحاج؟ قال: إعظاما لذلك أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف. ثم انصرف عنه فناداه فقال: يا محمد، يا محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا، فرجع إليه فقال: ما شأنك؟ قال: إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح. ثم انصرف، فناداه فقال: يا محمد، يا محمد، فأتاه فقال: ما شأنك؟ قال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني، قال: هذه حاجتك. ففدي بالرجلين. فقال: وأسرت امرأة من الأنصار، وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوثاق، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه، حتى تنتهي إلى العضباء، فلم ترغ، قال: وناقة منوقة فقعدت في عجزها، ثم زجرتها فانطلقت، ونذروا بها فطلبوها فأعجزتهم، قال: فنذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس، فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: "سبحان الله، بئسما جزتها، نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد".

وفي رواية: "لا نذر في معصية الله".

وفي رواية: كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج. وقال: فأتت على ناقة ذلول مجرسة.

وفي أخرى: وهي ناقة مدربة.


رواه أحمد ( 4 \ 430 )، ومسلم (1641)، وأبو داود (3316).
[ ص: 609 ] (2) ومن باب لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد

الحلفاء: جمع حليف، كظرفاء: جمع ظريف. والحليف: اسم فاعل من حلف، عدل عن حالف للمبالغة. وقد كثر حتى صار كالأسماء. والمحالفة، والتحالف: التعاهد والتعاقد على التناصر والتعاضد. والأسر: الأخذ. وأصله: الشد والربط؛ قاله القتبي. والعضباء: اسم للناقة. وهي التي صارت للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إما بحكم سهمه الخاص به من المغنم المسمى ب (الصفي)، وإما بالمعاوضة الصحيحة. وهي المسماة بالجدعاء، والقصواء، والخرماء في روايات أخر. وقد ذكرنا الخلاف فيها فيما تقدم. والعضب، والقصو، والجدع، والخرم، كلها بمعنى القطع. وسميت هذه الناقة بتلك الأسماء؛ لأنها كان في أذنها قطع، وسميت به، فصدقت عليها تلك الأسماء كلها. وعلى هذا: فأصول هذه الأسماء تكون صفات لها، ثم كثرت فاستعملت استعمال الأسماء.

و (قول الرجل المأسور: ( يا محمد ! بم أخذتني، وأخذت سابقة الحاج؟ ) هو استفهام عن السبب الذي أوجب أخذه وأخذ ناقته. وكأنه كان يعتقد: أن له أو [ ص: 610 ] لقبيلته عهدا من النبي صلى الله عليه وسلم. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بذكر السبب إعظاما لحق الوفاء، وإبعادا لنسبة الغدر إليه. فقال: ( أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف ) أي: بما فعلته ثقيف من الجناية التي نقضوا بها ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد. وكانت بنو عقيل دخلوا معهم في ذلك. فإما بحكم الشرط، وفيه بعد، والظاهر أنهم دخلوا معهم بحكم الحلف الذي كان بينهم. ولذلك ذكر حلفهم في الحديث. ولما سمع الرجل ذلك لم يجد جوابا، فسكت. وعنى بسابقة الحاج: ناقته العضباء. فإنها كانت لا تسبق. وقد كانت معروفة بذلك، حتى جاء أعرابي بقعود له فسبقها؛ فعظم ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: سبقت العضباء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن حقا على الله ألا يرفع شيء من الدنيا إلا وضعه).

و (قوله: ثم انصرف، فناداه: يا محمد ! يا محمد !) هذا النداء من الرجل على جهة الاستلطاف، والاستعطاف، ولذلك رق له رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع له وقال له: ( ما شأنك؟ ) - رحمة ورفقا - على مقتضى خلقه الكريم، ولذلك قال الراوي: ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا ).

و (قوله: إني مسلم ) ظاهر هذا اللفظ: أنه قد صار مسلما بدخوله في دين [ ص: 611 ] الإسلام.

وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم أنه لم يقبل ذلك منه؛ لما أجابه بقوله: ( لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح )، وحينئذ يلزم منه إشكال عظيم؛ فإن ظاهره: أنه لم يقبل إسلامه لأنه أسير مغلوب عليه، لا يملك نفسه. وعلى هذا: فلا يصح إسلام الأسير في حال كونه أسيرا، وصحة إسلامه معلوم من الشريعة، ولا يختلف فيه، غير أن إسلامه لا يزيل ملك مالكه بوجه. وهو أيضا معلوم من الشارع.

ولما ظهر هذا الإشكال اختلفوا في الانفصال عنه. فقال بعض العلماء: يمكن أن يكون علم النبي صلى الله عليه وسلم من حاله: أنه لم يصدق في ذلك بالوحي. ولذلك لما سأله في المرة الثالثة فقال: ( إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني ) قال: ( هذه حاجتك ). وقال بعضهم: بل إسلامه صحيح، وليس فيه ما يدل على أنه رد إسلامه.

فأما قوله: ( لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ) أي: لو قلت كلمة الإسلام قبل أن تؤسر لبقيت حرا من أحرار المسلمين، لك ما لهم من الحرية في الدنيا، وثواب الجنة في الآخرة. وأما إذا قلتها وأنت أسير: فإن حكم الرق لا يزول عنك بإسلامك. فإن قيل: فلو كان مسلما فكيف يفادى به من الكفار رجلان مسلمان؟ ! فالجواب: أنه ليس في الحديث نص: أنه رجع إلى بلاده بلاد الكفر. فيمكن أن يقال: إنما فدي بالرجلين من الرق فأعتق منه بسبب ذلك، وبقي مع المسلمين حرا من الأحرار. وليس في قوله: ( هذه حاجتك ) ما يدل على أن إسلامه ليس بصحيح، كما ظنه القائل الأول. وإنما معنى ذلك: هذه حاجتك حاضرة متيسرة.

[ ص: 612 ] قلت: وهذا الوجه الثاني أولى؛ لأنه لا نص في الحديث يرده، ولا قاعدة شرعية تبطله. والله تعالى أعلم.

و (قوله: وكان القوم يريحون نعمهم بين أيدي بيوتهم ) النعم هنا: الإبل، وإراحتها: إناختها لتستريح من تعب السير ومشقة السفر.

و (بين أيدي بيوتهم ) بمعنى: عند بيوتهم وبحضرتها.

و (قوله: وناقة منوقة ) أي: مذللة، مدربة، لا نفرة عندها. وهي المجربة أيضا. هذا قول العلماء، ويظهر لي: أن كونها مدربة ليس موجبا لئلا ترغو؛ لأنا قد شاهدنا من الأباعر والنوق ما لم يزل مدربا على العمل ومع ذلك فيرغو عند ركوبه، وعند الحمل عليه، وكأن هذه الناقة إنما كانت كذلك إما لأنها دربت على ترك الرغاء من صغرها، وإما لأنها كان لها هوى في السير والجري لنشاطها، فكلما حركت بادرت لما في هواها، وإما لأنها خصت في أصل خلقتها بزيادة هدوء، أو كان غير ذلك ببركة ركوب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها.

و (قوله: فقعدت في عجزها ) أي: ركبتها. والعجز: المؤخر.

وقوله: ( نذروا بها ) أي: علموا. وهو بكسر الذال المعجمة في الماضي، وفتحها في المستقبل (نذارة) في المصدر. ونذر، ينذر - بفتحها في الماضي، وكسرها في المستقبل - نذرا؛ أي: أوجب. يقال: نذرت بالشيء؛ أي: علمته ونذرت الشيء؛ أي: أوجبته. ابن عرفة : النذر: ما كان وعدا على شرط، فإن لم يكن شرط لم يكن نذرا. فلو قال: لله علي صدقة؛ لم يكن ناذرا حتى يقول: إن شفى الله مريضي، أو قدم غائبي.

[ ص: 613 ] قلت: والمشهور عدم التفرقة، وأن كل ذلك نذر عند اللغويين والفقهاء. والإنذار: الإعلام بما يخاف منه.

و (قوله: أعجزتهم ) أي: سبقتهم، ففاتتهم، فعجزوا عنها. ومنه قوله تعالى: وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا أي: لن نفوته، فلا يعجز عنا.

و (قوله: فنذرت لله: إن نجاها الله عليها لتنحرنها ) ظنت هذه المرأة: أن ذلك النذر يلزمها بناء منها على أنها لما استنقذتها من أيدي العدو ملكتها، أو جاز لها التصرف فيها لذلك. فلما أعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أجابها بما يوضح لها: أنها لم تملكها، وأن تصرفها فيها غير صحيح.

و (قوله صلى الله عليه وسلم: ( بئس ما جزتها ) ذم لذلك النذر، من حيث إنه لم يصادف محلا مملوكا لها، ولو كانت ملكا لها للزمها الوفاء بذلك النذر؛ إذ كان يكون نذر طاعة، فيلزم الوفاء به اتفاقا. هذا إن كان ذلك الذم شرعيا. ويمكن أن يقال: إنما صدر هذا الذم منه لأن ذلك النذر مستقبح عادة؛ لأنه مقابلة الإحسان بالإساءة. وذلك: أن الناقة نجتها من الهلكة، فقابلتها على ذلك بأن تهلكها. وهذا هو الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: ( سبحان الله ! بئس ما جزتها ! نذرت لله: إن نجاها الله عليها لتنحرنها ).

وفي هذا الحديث حجة: على أن ما وجد من أموال المسلمين بأيدي الكفار، وغلبوا عليه، وعرف مالكه؛ أنه له دون آخذه. وفيه مستروح لقول من يقول: إن الكفار لا يملكون. وقد تقدم الكلام في ذلك.

[ ص: 614 ] و (قوله: لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد ) ظاهر هذه الكلمة يدل على أن ما صدر من المرأة نذر معصية؛ لأنها التزمت أن تهلك ملك الغير، فتكون عاصية بهذا القصد. وهذا ليس بصحيح؛ لأن المرأة لم يتقدم لها من النبي صلى الله عليه وسلم بيان تحريم ذلك، ولم تقصد ذلك، وإنما معنى ذلك - والله تعالى أعلم -: أن من أقدم على ذلك بعد التقدمة، وبيان: أن ذلك محرم: كان عاصيا بذلك القصد. ولا يدخل في ذلك المعلق على الملك، كقوله: إن ملكت هذا البعير فهو هدي، أو صدقة؛ لأن ذلك الحكم معلق على ملكه، لا ملك غيره. وليس مالكا في الحال، فلا نذر. وقد تقدم الكلام على هذا في الطلاق والعتق المعلقين على الملك. وأن الصحيح لزوم المشروط عند وقوع الشرط. وفيه دليل: على أن من نذر معصية حرم عليه الوفاء بها، وأنه لا يلزمه على ذلك حكم بكفارة يمين، ولا غيره. إذ لو كان هنالك حكم لبينه للمرأة؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وعليه جمهور العلماء. وذهب الكوفيون: إلى أنه يحرم عليه الوفاء بالمعصية، لكن تلزمه كفارة يمين؛ متمسكين في ذلك بحديث معتل عند أهل الحديث. وهو ما يروى من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين ) ذكره أبو داود ، والطحاوي ، والصحيح من حديث عائشة ما خرجه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه ) وليس فيه شيء من ذلك. والله تعالى أعلم.

ثم: النذر إما طاعة، فيجب الوفاء به بالاتفاق، أو: معصية، فيحرم الوفاء به [ ص: 615 ] بالاتفاق. أو: لا طاعة، ولا معصية، وهو المكروه والمباح، فلا يلزم الوفاء بشيء منهما. وهو مكروه؛ لأنه من تعظيم ما لا يعظم. وهو مذهب الجمهور. وشذ أحمد بن حنبل ، فقال: إذا نذر مباحا لزمه: إما الوفاء به، أو كفارة يمين. وحيث قلنا: بلزوم الوفاء فلا اعتبار بالوجه الذي يخرج عليه النذر من تبرر، أو لجاج، أو غضب، أو غير ذلك. وهو مذهب الجمهور. وقال الشافعي في نذر الحرج المعين: مخرجه: هو بين الوفاء به، وبين كفارة يمين. وعموم قوله: ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) حجة. وكل ما روي في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: ( لا نذر في غضب، أو غيظ، وكفارته كفارة يمين ) لا يصح من طرقه شيء عند أئمة المحدثين.

ومن أوضح الحجج في عدم وجوب الكفارة على أن من نذر معصية، أو ما لا طاعة فيه أنه لا تلزمه كفارة، حديث أبي إسرائيل الذي خرجه مالك مرسلا، والبخاري ، وأبو داود مسندا عن ابن عباس ، وهذا لفظه: قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال: (مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه ). قال مالك : ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بكفارة.

التالي السابق


الخدمات العلمية