المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3197 [ 1779 ] وعنها: قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة فكلموه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحو الأول.

رواه مسلم (1688) (10) وأبو داود (4374).
(2) ومن باب النهي عن الشفاعة في الحدود إذا بلغت الإمام

(قوله: إن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت ) هذا هو الصحيح: أن هذه المرأة سرقت، وقطعت يدها لأجل سرقتها، لا لأجل جحد المتاع. ويدل على صحة ذلك أربعة أوجه:

أولها: إن رواية من روى: "أنها سرقت" أكثر وأشهر من رواية من قال: إنها كانت تجحد المتاع وإنما انفرد معمر بذكر الجحد وحده من بين الأئمة الحفاظ، وقد تابعه على ذلك من لا يعتد بحفظه كابن أخي ابن شهاب ونمطه. هذا قول المحدثين.

ثانيها: إن معمرا وغيره ممن روى هذه القضية متفق على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - حيث أنكر على أسامة -: ( لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها ) ثم أمر بيد المرأة فقطعت. وهذا يدل دلالة قاطعة على أن المرأة قطعت في السرقة; إذ لو كان قطعها لأجل جحد المتاع لكان ذكر السرقة هنا لاغيا، لا فائدة له، وإنما كان يقول: لو أن فاطمة جحدت المتاع لقطعت يدها.

وثالثها: إن جاحد المتاع خائن، ولا قطع على خائن عند جمهور العلماء [ ص: 78 ] خلافا لما ذهب إليه أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي من حديث جابر مرفوعا: ( ليس على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس، قطع ) . وقال: هذا حديث حسن صحيح. وهذا نص. ولأنه لو كان في جحد المتاع قطع لكان يلزم القطع على كل من جحد شيئا من الأشياء ثم ثبت عليه. وهذا لا قائل به فيما أعلم.

ورابعها: إنه لا تعارض بين رواية من روى: (سرقت) ولا بين رواية من روى: (جحدت ما استعارت) إذ يمكن أن يقال: إن المرأة فعلت الأمرين، لكن قطعت في السرقة، لا في الجحد، كما شهد به مساق الحديث، فتأمله.

و(قوله - صلى الله عليه وسلم -: أتشفع في حد من حدود الله ؟!) إنكار على أسامة يفهم منه: تحريم الشفاعة في الحدود إذا بلغت الإمام، فيحرم على الشافع وعلى المشفع، وهذا لا يختلف فيه. وقد ذكر الدارقطني عن عروة بن الزبير قال: شفع الزبير في سارق، فقيل: حتى نبلغه الإمام. قال: إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن : أن الزبير قال ذلك، ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - والموقوف هو الصحيح.

[ ص: 79 ] وأما الشفاعة قبل بلوغ الإمام: فقد أجازها أكثر أهل العلم لما جاء في الستر على المسلم مطلقا، لكن قال مالك : ذلك فيمن لم يعرف منه أذى للناس، فأما من عرف منه شر وفساد فلا أحب أن يشفع فيه.

وأما الشفاعة فيما ليس فيه حد وليس فيه حق لآدمي، وإنما فيه التعزير - فجائزة عند العلماء، بلغ الإمام أم لا.

و(قوله: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ) تهديد، ووعيد شديد على ترك القيام بالحدود، وعلى ترك التسوية فيما بين الدنيء والشريف، والقوي والضعيف. ولا خلاف في وجوب ذلك.

وفيه حجة لمن قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا.

و(قوله: لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها ) إخبار عن مقدر يفيد القطع بأمر محقق، وهو وجوب إقامة الحد على البعيد والقريب، والبغيض والحبيب، لا تنفع في ذرية شفاعة، ولا تحول دونه قرابة ولا جماعة.

و(قولها: فحسنت توبتها، وتزوجت ... إلى آخره) يدل على صحة توبة [ ص: 80 ] السارق وأنها ماحية لإثم السرقة، وللمعرة اللاحقة، فيحرم تعييره بذلك، أو يعاب عليه شيء مما كان هنالك. وهكذا حكم أهل الكبائر إذا تابوا منها، وحسنت أحوالهم بعدها، تسمع أقوالهم، وتقبل شهادتهم. وهذا مذهب الجمهور، غير أن أبا حنيفة قال: لا تقبل شهادة القاذف المحدود مطلقا وإن تاب. وقال مالك : لا تقبل شهادة المحدود فيما حد فيه، وتقبل في غيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية