المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3210 (7) باب لا تغريب على امرأة ويقتصر على رجم الزاني الثيب ولا يجلد قبل الرجم

[ 1787 ] عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا: إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنشدك إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه -: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل. قال: إن ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم، فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا; فإن اعترفت فارجمها. قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت.

رواه أحمد (4 \ 115) والبخاري (2314) ومسلم (1697) وأبو داود (4445) والترمذي (1433) والنسائي (8 \ 241 و 242) وابن ماجه (2549).
[ ص: 104 ] (7) ومن باب لا تغريب على امرأة ويقتصر على رجم الزاني الثيب، ولا يجلد قبل الرجم

قوله: ( يا رسول الله! أنشدك إلا قضيت لي بكتاب الله ) هكذا وقع في صحيح الرواية: (أنشدك) من غير ذكر اسم الله. وهو المراد به، لكنه حذف لفظا للعلم به. وقد وقع في بعض النسخ: (أنشدك الله!) ومعناه: أقسم عليك بالله. وكتاب الله هنا: يراد به: حكم الله إن كانت هذه القضية وقعت بعد نسخ تلاوة آية الرجم كما تقدم. وإن كانت قبل ذلك: فكتاب الله محمول على حقيقته.

و(قوله: فقال الخصم الآخر -وهو أفقه منه-: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي ) إنما فضل الراوي الثاني على الأول بالفقه; لأن الثاني ترفق ولم يستعجل، ثم تلطف بالاستئذان في القول، بخلاف الأول، فإنه استعجل، وأقسم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء كان يفعله بغير يمين، ولم يستأذن، وهذا كله من جفاء الأعراب، فكان للثاني عليه مزية في الفهم والفقه.

ويحتمل: أن يكون ذلك; لأن الثاني وصف القضية بكمالها، وأجاد سياقتها.

و(قوله: إن ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته ) العسيف: الأجير، [ ص: 105 ] على ما قاله مالك ولم يكن هذا من الأب قذفا لابنه، ولا للمرأة; لاعترافهما بالزنى على أنفسهما.

وفي هذا الحديث أبواب من الفقه؛ فمنها: أن كل صلح خالف السنة فهو باطل ومردود، وأن الحدود التي هي ممحضة لحق الله تعالى لا يصح الصلح فيها.

واختلف في حد القذف; هل يصح الصلح فيه أم لا؟ ولم يختلف في كراهته؛ لأنه ثمن عرض، ولا خلاف في أنه يجوز قبل رفعه. وأما حقوق الأبدان من الجراح وحقوق الأموال: فلا خلاف في جوازه مع الإقرار. واختلف في الصلح على الإنكار، فأجازه مالك ، ومنعه الشافعي .

وفيه: جواز استنابة الحاكم في بعض القضايا من يحكم فيها مع تمكنه من مباشرته.

وفيه: أن الإقرار بالزنى لا يشترط فيه تكرار أربع مرات، ولا أن المرجوم يجلد قبل الرجم، وقد تقدم الخلاف فيهما.

وفيه: أن ما كان معلوما من الشروط والأسباب التي تترتب عليها الأحكام لا يحتاج إلى السؤال عنها، فإن إحصان المرأة كان معلوما عندهم، فإنها كانت ذات زوج معروف الدخول عليها، وعلى هذا يحمل حديث الغامدية ; إذ لو لم تكن محصنة لما جاز رجمها بالإجماع.

وفيه: إقامة الحاكم الحد بمجرد إقرار المحدود وسماعه منه من غير شهادة عليه، وهو أحد قولي الشافعي ، وأبي ثور ولا يجوز ذلك عند مالك إلا بعد الشهادة عليه. وانفصل عن ذلك بأنه ليس في الحديث ما ينص على أنها لم يسمع إقرارها إلا أنيس خاصة، بل العادة قاضية بأن مثل هذه القضية لا تكون في خلوة، [ ص: 106 ] ولا ينفرد بها الآحاد، بل لا بد من حضور جمع كثير تلك القضية، وشهرتها، لا سيما قضية مثل هذه ترفع إلى الإمام، ويبعث من يكشفها ويرجم فيها. ولا بد من إحضار طائفة من المؤمنين لإقامة الحد كما قال تعالى، مع صغر المدينة فمثل هذا لا يخفى، ولا ينفرد به الواحد ولا الاثنان، وهذا كله مبني على أن أنيسا كان حاكما، ويحتمل أن يكون رسولا لها ليستفصلها، ويعضد هذا التأويل قوله في آخر الحديث: ( فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت ) فهذا يدل على أن أنيسا إنما سمع إقرارها، وأن تنفيذ الحكم إنما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد سماع إقرارها من أنيس حين أبلغه إياه، وحينئذ يتوجه إشكال آخر، وهو أن يقول: فكيف اكتفي بشاهد واحد؟!

وقد اختلف في الشهادة على الإقرار بالزنى؛ هل يكتفى فيه بشهادة شاهدين كسائر الإقرارات أم لا بد من أربعة كالشهادة على رؤية الزنى؟ على قولين لعلمائنا، ولم يذهب أحد من المسلمين إلى الاكتفاء بشهادة واحد.

فالجواب: أن هذا اللفظ الذي قال فيه: فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت هو من رواية الليث عن الزهري ، وقد روى هذا الحديث عن الزهري مالك ، وقال فيه: فاعترفت، فرجمها ، ولم يذكر: ( فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت ).

وعند التعارض: فحديث مالك أولى لما يعلم من حال مالك ، وحفظه، وضبطه، وخصوصا في حديث الزهري ، فإنه أعرف الناس به، وعلى رواية مالك فظاهرها: أن أنيسا كان حاكما، فيزول الإشكال، ولو سلمنا: أنه كان رسولا; فليس في الحديث ما ينص على انفراد أنيس بالشهادة عليها، فيكون غيره شهد عند [ ص: 107 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك.

ويعتضد هذا بما ذكرنا من أن القضية انتشرت، واشتهرت، فيبعد أن ينفرد بها واحد، سلمناه، لكنه خبر، وليس بشهادة، فلا يشترط فيه العدد، وحينئذ يستدل به على قبول أخبار الآحاد والعمل بها في الدماء وغيرها، والله تعالى أعلم.

وفيه دليل على جواز الاستفتاء والفتيا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع إمكان الوصول إليه، وجواز استفتاء المفضول مع وجود الأفضل، ولو كان ذلك غير جائز لأنكره النبي - صلى الله عليه وسلم.

وفيه دليل على جواز اليمين بالله تعالى، وإن لم يستحلف، وعلى أن ما يفهم منه اسم الله تعالى يمين جائزة وإن لم يكن من أسمائه تعالى؛ فإن قوله: ( والذي نفسي بيده! ) ليس من أسماء الله تعالى، ولكنه تنزل منزلة الأسماء في الدلالة، فيلحق به كل ما كان في معناه، كقوله: والذي خلق الخلق، وبسط الرزق، وما أشبه ذلك.

و(قوله: واغد يا أنيس على امرأة هذا ) معناه: امض وسر، وليس معناه: سر إليها بكرة، كما هو موضوع الغداة، وكذلك قوله: ( فغدا عليها ) أي: مشى إليها، وسار نحوها.

وفيه ما يدل على أن زنى المرأة تحت زوجها لا يفسخ نكاحها، ولا يوجب [ ص: 108 ] تفرقة بينها وبين زوجها; إذ لو كان ذلك لفرق بينهما قبل الرجم ولفسخ النكاح، ولم ينقل شيء من ذلك، ولو كان لنقل كما نقلت القصة، وكثير من تفاصيلها.

وفيه دليل على صحة الإجارة.

التالي السابق


الخدمات العلمية