المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3216 [ 1791 ] وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير. قال ابن شهاب: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة. والضفير: الحبل.

رواه أحمد (4 \ 117) والبخاري (2153) ومسلم (1704) وأبو داود (4469) وابن ماجه (2565).
[ ص: 121 ] و(قوله: ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير ) الضفير: الحبل المضفور، فعيل بمعنى مفعول. وفي الرواية الأخرى: ( ولو بحبل من شعر ) [فوصف الحبل بكونه من شعر] لأنه أكثر حبالهم، وهذا خرج مخرج التقليل والتزهيد في الجارية الزانية، فكأنه قال: لا تمسكها، بعها بما تيسر، ففيه دليل على إبعاد أهل المعاصي واحتقارهم.

فروع: إذا باعها عرف بزناها، فإنه عيب، فلا يحل أن يكتم.

فإن قيل: إذا كان مقصود هذا الحديث إبعاد الزانية، ووجب على بائعها التعريف بزناها، فلا ينبغي لأحد أن يشتريها؛ لأنها مما قد أمرنا بإبعادها.

فالجواب: إنها مال، ولا يضاع; للنهي عن إضاعة المال، ولا تسيب، ولا تحبس دائما; إذ كل ذلك إضاعة مال، ولو سيبت لكان ذلك إغراء لها بالزنى وتمكينا منه، فلم يبق إلا بيعها، ولعل السيد الثاني يعفها بالوطء، أو يبالغ في التحرز بها، فيمنعها من ذلك. وعلى الجملة فعند تبدل الأملاك تختلف عليها الأحوال.

وجمهور العلماء حملوا الأمر ببيع الأمة الزانية على الندب، والإرشاد للأصلح، ما خلا داود وأهل الظاهر فإنهم حملوه على الوجوب تمسكا بظاهر الأمر، والجمهور صرفوه عن ظاهره تمسكا بالأصل الشرعي، وهو: أنه لا يجبر أحد على إخراج ملكه لملك آخر بغير الشفعة. فلو وجب ذلك عليه لجبر عليه، ولم يجبر عليه فلا يجب.

وقد استنبط بعض العلماء من هذا الحديث جواز البيع بالغبن، قال: لأنه بيع خطير بثمن يسير، وهذا ليس بصحيح; لأن الغبن المختلف فيه إنما هو مع الجهالة من المغبون، وأما مع علم البائع بقدر ما باع وبقدر ما قبض فلا يختلف فيه; لأنه [ ص: 122 ] عن علم منه ورضا، فهو إسقاط لبعض الثمن، وإرفاق بالمشتري، لاسيما وقد بينا أن الحديث خرج على جهة التزهيد، وترك الغبطة.

و(قوله: سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ) هذه الزيادة التي هي قوله: ( ولم تحصن ) هي رواية مالك عن ابن شهاب . قال الطحاوي : لم يقله غير مالك . قال غيره: ليس ذلك بصحيح، بل قد رواه سفيان بن عيينة ، ويحيى بن سعيد ، عن ابن شهاب ، كما قاله مالك .

واختلف في تأويل قوله: ( ولم تحصن ).

فقيل: لم تعتق، وتكون فائدته: أنها لو زنت وهي مملوكة فلم يحدها سيدها حتى عتقت لم يكن له سبيل إلى جلدها، والإمام هو الذي يقيم ذلك عليها إذا ثبت عنده.

وقيل: ما لم تتزوج، وفائدة ذلك: أنها إذا تزوجت لم يكن للسيد أن يجلدها لحق الزوج; إذ قد يضره ذلك، وهذا مذهب مالك إذا لم يكن الزوج ملكا للسيد، فلو كان جاز للسيد ذلك; لأن حقهما حقه.

وقيل: لم تسلم، وفائدته: أن الكافرة لا تحد، وإنما تعزر وتعاقب، وعلى هذا فيكون الجلد المأمور به في هذا الحديث على جهة التعزير لا الحد، وهذا كله إنما هو تنزل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق الجلد المأمور به في الجواب على نفي الإحصان المأخوذ قيدا في السؤال، وعلى القول بدليل الخطاب، وحينئذ يكون هذا الحديث على نقيض قوله تعالى: فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [النساء: 35] فإن شرط الجلد نفي الإحصان، وشرط الحد في الآية ثبوت الإحصان، فلا بد أن يكون أحد الإحصانين غير الآخر. ولو قدرناه واحدا فيهما للزم أن يكون الجلد المترتب على نفي الإحصان في الحديث غير الحد المترتب على الإحصان المثبت في الآية.

[ ص: 123 ] وقد اختلف في إحصان الآية، كما اختلف في الإحصان المنفي في الحديث.

فقال قوم: هو الإسلام، قاله ابن مسعود ، والشعبي ، والزهري ، وغيرهم. وعلى هذا: فلا تحد كافرة.

وقال آخرون: إنه التزويج، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعلى هذا فتحد المتزوجة وإن كانت كافرة، كما قاله الشافعي .

وقال آخرون: إنه الحرية، وروي ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وعلي وعلى هذا فلا تحد أمة بوجه وإن كانت مسلمة، لكنها يجلدها سيدها تعزيرا.

وكل هذا الخلاف أوجبه اشتراك لفظ الإحصان، فإنه قد جاء في كتاب الله تعالى بمعنى: الإسلام، والحرية، والتزويج، والعفاف. والعفاف غير مراد في هذا الحديث، ولا في هذه الآية بالاتفاق، فبقي لفظ الإحصان محتملا لأن يراد به واحد من تلك المعاني الثلاثة، فترتب عليه الخلاف المذكور.

والذي يرفع الإشكال عن الحديث إن شاء الله تعالى: أن نفي الإحصان إنما هو من قول السائل، ولم يصرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخذه قيدا في الجلد، فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض عنه، وأفتى بالجلد مطلقا، ويشهد لهذا التأويل: أن الأحاديث الواردة في جلد الأمة إذا زنت ليس فيها ذكر لذلك القيد من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ... الحديث) ولو سلمنا: أن ذلك القيد من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنزلنا على القول بدليل الخطاب، فأولى الأقوال به أن يحمل على التزويج، ويستفاد منه صحة مذهب مالك على ما قدمناه؛ دفعا للاشتراك، وتنزيلا للحديث على فائدة مستجدة.

والذي يحسم مادة الإشكال عن الحديث والآية حديث علي بعد هذا، وهو قوله في حال خطبته: يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهم ومن لم يحصن. وهذا الحديث وإن كان موقوفا على علي - رضي الله عنه - في كتاب مسلم ، فقد رواه النسائي ، وقال فيه: قال [ ص: 124 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم; من أحصن منهم، ومن لم يحصن) وهذا ينص على أمر السادة بإقامة الحد الذي ذكره الله تعالى، وليس بتعزير، فإنه قد سماه حدا، وصرح بإلغاء اعتبار الإحصان مطلقا; إذ سوى بين وجوده وعدمه، فتحد الأمة الزانية على أي حال كانت.

ويعتذر عن تخصيص الإحصان في الآية بالذكر: بأنه أغلب حال الإماء، أو الأهم في مقاصد الناس، لا سيما إذا حمل الإحصان على الإسلام. وهو أولى الأقوال على ما قد أوضحه القاضي أبو بكر بن العربي . والله تعالى أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية