المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
24 (5) باب

إطلاق اسم الإيمان على ما جعله في حديث جبريل إسلاما

[ 14 ] عن أبي جمرة ، قال : كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس ، فأتته امرأة فسألته عن نبيذ الجر ؟ فقال : إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من الوفد ؟ - أو : من القوم ؟ - قالوا : ربيعة ، قال : مرحبا بالقوم - أو بالوفد - غير خزايا ولا الندامى ، قال : فقالوا : يا رسول الله ، إنا نأتيك من شقة بعيدة ، وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر ، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام ، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة ، قال : فأمرهم بأربع ، ونهاهم عن أربع ; قال : أمرهم بالإيمان بالله وحده ، وقال : هل تدرون ما الإيمان بالله ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تؤدوا خمسا من المغنم ، ونهاهم عن الدباء ، والحنتم ، والمزفت - وربما قال : المقير ، وربما قال : النقير - وقال : احفظوه ، وأخبروا به من ورائكم .

وفي رواية : من وراءكم .

رواه البخاري ( 53 ) ، ومسلم ( 17 ) ، وأبو داود ( 3692 ) و ( 3694 ) ، والترمذي ( 2614 ) ، والنسائي ( 8 \ 323 ) .


[ ص: 171 ] (5) ومن باب إطلاق اسم الإيمان على ما جعله في حديث جبريل إسلاما

معنى جعل في هذه الترجمة : سمى ، كما قال تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [ الزخرف : 19 ] ويصلح أن يكون بمعنى : صير ; كما تقول العرب : جعلت حسن فلان قبحا ، أي : صيرته ، وقد تقدم القول في الإيمان والإسلام من حديث جبريل .

(قوله : " أبو جمرة ") هذا الذي يروي عن ابن عباس حديث وفد عبد القيس ، هو بالجيم والراء ، واسمه : نصر بن عمران الضبعي ، وقد روى عن ابن عباس رجل آخر يقال له : أبو حمزة - بالحاء المهملة والزاي - واسمه : عمران بن أبي عطاء القصاب .

و (قوله : " كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس ") أي : أبلغ كلامه ، وأفسره لمن لا يفهمه ، وعرف الترجمة : التعبير بلغة عن لغة لمن لا يفهم ، وقيل كان أبو جمرة يتكلم بالفارسية . وفيه دليل على أن ابن عباس كان يكتفي في الترجمة بواحد ; لأنه مخبر ، وقد اختلف فيه ، فقيل : لا يكفي الواحد ، بل لا بد من اثنين ; لأنها شهادة .

و (قوله : " فأتته امرأة فسألته عن نبيذ الجر ") وهي : جمع جرة ، وهي : قلال من [ ص: 172 ] فخار ، غير أنها مطلية بالزجاج ، وهو الحنتم ، ونبيذ الجر : هو ما ينبذ فيها من التمر وغيره . وإنما سألته عن حكم النبيذ في الجرار : هل يحل أم لا ؟ فذكر لها ما يدل على منع ذلك ، ثم أخذ في ذكر الحديث بقصته . ففيه : ما يدل على أن المفتي يجوز له أن يذكر الدليل مستغنيا به عن النص على الفتيا إذا كان السائل بصيرا بموضع الحجة .

و (قوله - عليه الصلاة والسلام - : " من القوم ؟ أو من الوفد ؟ ") هذا شك من بعض الرواة . و " الوفد " : الوافدون ، وهم القادمون والزائرون ، يقال : وفد يفد ، فهو وافد ، والجمع : وافدون ووفود ، والقوم وفد ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا [ مريم : 85 ] ركبانا .

و (قوله : " مرحبا ") هو من الرحب - بضم الراء - وهو السعة ، والرحب - بفتح الراء - : هو الشيء الواسع ، وهو منصوب بفعل مضمر ، لا يستعمل إظهاره ، أي : صادفت رحبا ، أو أتيت رحبا ; فاستأنس ولا تستوحش . والخزايا جمع خزيان ; مثل : ندمان وندامى ، وسكران وسكارى ; كما قال تأبط شرا :


. . . . . . ... والموت خزيان ينظر

خزي الرجل يخزى خزيا ; إذا ذل ، وخزاية : إذا خجل واستحيى . والندامى هنا : جمع نادم ; لكنه على غير قياس ; لأن قياس ندامى أن يكون جمع ندمان ، كما [ ص: 173 ] قلناه ، والندمان : هم المجاليس على الخمر وساقيها ; كما قال الشاعر :


فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني     ولا تسقني بالأصغر المتثلم

وليس مرادا هاهنا ، وإنما جمع نادما هذا على ندامى ; إتباعا لخزايا ; على عادتهم في إتباع اللفظ اللفظ ، وإن لم يكن بمعناه ; كما قالوا : إني لآتيه بالغدايا والعشايا ; فجمعوا الغدوة : غدايا ; لما ضموه إلى العشايا ; كما قال شاعرهم :


هتاك أخبية ولاج أبوية      . . . . .

فجمع الباب على أبوية ، لما أتبعه أخبية ، ولو أفرده لما جاز ذلك ، ومن هذا النوع : قوله - عليه الصلاة والسلام - للنساء المتبعات للجنازة : ارجعن مأزورات غير مأجورات ، ولولا مراعاة الإتباع قال : موزورات بالواو ; لأنه من الوزر . وقال القزاز في " جامعه " : يقال في النادم : ندمان ; فيكون ندامى على القياس ، ومعنى هذا القول : التأنيس ، والإكرام والثناء عليهم بأنهم بادروا بإسلامهم طائعين من غير خزي لحقهم من قهر ولا سباء ، ثم إنهم لما أسلموا كذلك احترموا وأكرموا وأحبوا ، فلم يندموا على ذلك ، بل انشرحت صدورهم للإسلام ، وتنورت قلوبهم بالإيمان .

وغير خزايا : منصوب على الحال ، أي : أتيتم في هذه الحال . وروي : ولا الندامى ، ولا ندامى ، معرفا وغير معرف ; وهما بمعنى واحد . والشقة البعيدة : المسافة البعيدة الصعبة . والحي : القبيل ، وربيعة : هو خبر مبتدأ محذوف ; أي : نحن بنو ربيعة .

و (قوله : " وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام ") كذا الرواية الصحيحة [ ص: 174 ] بتعريف الحرام ، وإضافة الشهر إليه ، وهو من باب إضافة الشيء إلى صفته ; كما قالوا : مسجد الجامع ، وصلاة الأولى ; وقال تعالى : ولدار الآخرة خير [ يوسف : 109 ] وهو على تقدير محذوف ; فكأنه قال : شهر الوقت الحرام ، ومسجد المكان الجامع ، ولدار الحالة الآخرة ، ونحوه .

ويعنون بشهر الحرام : رجبا ; لأنه متفرد بالتحريم من شهور الحل ، بخلاف سائر الأشهر الحرم ; فإنها متوالية ; ولذلك قال فيها : ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، يعنون به : رجبا ، وهو الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه شهر مضر ، وإنما نسبه إليهم : إما لأنها انفردت بابتداء احترامه ، أو لتخصيص الاحترام به ، أو بزيادة التعظيم له على غيرهم ، والله تعالى أعلم .

وقد وقع في بعض النسخ : في شهر حرام ، وهو يصلح لرجب وحده ، ولجميع الأشهر الحرم ، وحاصل قولهم هذا أنه اعتذار عن امتناع تكرر قدومهم عليه .

و (قوله : " فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ، ندخل به الجنة ") قيدناه على من يوثق بعلمه : نخبر به مرفوعا ، وندخل مرفوعا ومجزوما ; فرفعهما على الصفة لأمر ، وجزم ندخل على جواب الأمر المتضمن للجزاء ; فكأنه قال : إن أمرتنا بأمر واضح ، فعلنا به ، ورجونا دخول الجنة بذلك الفعل .

والقول الفصل : هو الواضح البليغ الذي يفصل بين الحق والباطل ; كما قال تعالى : إنه لقول فصل [ الطارق : 13 ] .

و (قوله : " فأمرهم بأربع ، ونهاهم عن أربع ") ثم إنه ذكر خمسا : فقيل في ذلك : [ ص: 175 ] إن أولى الأربع الموعود بها : هو إقام الصلاة ، في ذكر كلمة التوحيد ; تبركا بها ، وتشريفا لها ... كما قيل ذلك في قوله تعالى : فأن لله خمسه وللرسول [ الأنفال : 41 ] في قول كثير من أهل العلم . وقيل : إنما قصد إلى ذكر الأركان الأربع التي هي : التوحيد ، والصلاة ، والصوم ، والزكاة ، ثم ظهر له أنهم أهل غزو وجهاد ، فبين لهم وجوب أداء الخمس ، والله أعلم .

وإنما لم يذكر لهم الحج ; لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر ، أو لأن وجوب الحج على التراخي ، والله تعالى أعلم . وقد تقدم القول في الإيمان والإسلام ، وأنهما حقيقتان متباينتان في الأصل ، وقد يتوسع فيطلق أحدها على الآخر ، كما جاء هنا ; فإنه أطلق الإيمان على الإسلام ; لأنه عنه يكون غالبا ، وهو مظهره .

التالي السابق


الخدمات العلمية