المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
321 [ 164 ] وعن عمران بن حصين ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : هم الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون .

رواه أحمد ( 4 \ 448 ) ، ومسلم ( 218 ) .


[ ص: 462 ] (67) ومن باب كم يدخل الجنة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بغير حساب ؟

(قوله : " لا رقية إلا من عين أو حمة ") العين : إصابة العين ، والحمة - بضم الحاء وفتح الميم مخففة - : حرقة السم ولذعه ، وقيل : السم نفسه .

قال الخطابي : ومعنى ذلك : لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة . وكان - عليه الصلاة والسلام - قد رقي ورقى ، وأمر بها وأجازها ، وإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله تعالى ، فهي مباحة أو مأمور بها . وإنما جاءت الكراهية والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب ، فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله الشرك .

قال : ويحتمل أن يكون الذي يكره من الرقية ما كان منها على مذاهب الجاهلية التي كانوا يتعاطونها ، وأنها تدفع عنهم الآفات ، ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم .

[ ص: 463 ] وقد اختلفت الرواية عن مالك في إجازة رقية أهل الكتاب للمسلم ، فأجازها مرة إذا رقى بكتاب الله ، ومنعها أخرى ; إذ لا يدرى ما الذي يرقي به .

و (قوله : " فإذا سواد عظيم ") يعني به : أشخاصا كثيرة ، وجمعه أسودة ، وقد تقدم .

و (قوله : " هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون ") اختلف الناس في معنى هذا الحديث وعلى ماذا يحمل ؟ فحمله الإمام المازري - رحمه الله - على أنهم الذين جانبوا اعتقاد الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطباعها واعتقاد الجاهلية في ذلك ورقاهم . وهذا غير لائق بمساق الحديث ولا بمعناه ; إذ مقصوده إثبات مزية وخصوصية لهؤلاء السبعين ألفا ، وما ذكره يرفع المزية والخصوصية ، فإن مجانبة اعتقاد ذلك هو حال المسلمين كافة ، ومن لم يجانب اعتقاد ذلك لم يكن مسلما . ثم إن ظاهر لفظ الحديث إنما هو : " لا يرقون ولا يكتوون " أي : لا يفعلون هذه الأمور ، وما ذكره خروج عنه من غير دليل .

وقال الداودي . المراد بذلك الذين يجتنبون فعله في الصحة ، فإنه يكره [ ص: 464 ] لمن ليست به علة أن يتخذ التمائم ويستعمل الرقى ، فأما من يستعمل ذلك في مرض به فهو جائز . وهذا إن صح أن يقال في التمائم وفي بعض الرقى ، فلا يصح أن يقال في التعويذات ، وهي من باب الرقى ; إذ قد يجوز أن يتعوذ من الشرور كلها قبل وقوعها . ولا يصح ذلك في التطبب ، فإنه يجوز أن يتحرز من الأدواء قبل وقوعها ، وأما الكي ، فيأتي القول فيه إن شاء الله تعالى .

وذهب الخطابي وغيره إلى أن وجه ذلك أن يكون تركها على جهة التوكل على الله تعالى والرضا بما يقضيه من قضاء وينزل به من بلاء ، قال : وهذه أرفع درجات المحققين بالإيمان ، قال : وإلى هذا ذهب جماعة من السلف ، وسماهم . قال القاضي أبو الفضل عياض : وهذا هو ظاهر الحديث ; ألا ترى قوله : وعلى ربهم يتوكلون؟ ومضمون كلامه أنه لا فرق بين ما ذكر من الكي والرقى وبين سائر أبواب الطب .

وقد ذهب غيره إلى أن استعمال الرقى والكي قادح في التوكل بخلاف سائر أنواع الطب ، فإنها غير قادحة في التوكل ، وفرق بين القسمين بأن قال : باب الرقى والكي والطيرة موهوم فيقدح في التوكل ، وما عداها غير موهوم بل محقق ، فيصير كالأكل للغذاء أو الشرب للري ، فلا يقدح . قال الشيخ : وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أن أكثر أبواب الطب موهومة كالكي ، فلا معنى لتخصيصه بالكي والرقى .

وثانيهما : أن الرقى بأسماء الله تعالى هو غاية التوكل على الله تعالى ، فإنه التجاء إليه ، ويتضمن ذلك رغبته له وتبركا بأسمائه ، والتعويل عليه في كشف الضر والبلاء ، فإن كان هذا قادحا في التوكل ، فليكن الدعاء والأذكار قادحا في [ ص: 465 ] التوكل ، ولا قائل به ، وكيف يكون ذلك ؟ وقد رقى النبي - صلى الله عليه وسلم - واسترقى . ورقاه جبريل وغيره ورقته عائشة ، وفعل ذلك الخلفاء والسلف ، فإن كانت الرقى قادحة في التوكل ومانعة من اللحوق بالسبعين ألفا ، فالتوكل لم يتم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا لأحد من الخلفاء ، ولا يكون أحد منهم في السبعين ألفا مع أنهم أفضل من وافى القيامة بعد الأنبياء ، ولا يتخيل هذا عاقل .

قال الشيخ - رحمه الله - : والذي يظهر لي أن القول ما قاله الخطابي وحكاه عن جماعة من السلف ، وذلك ظاهر في الطيرة والكي ، فإذا دفع الطيرة عن نفسه ولم يلتفت إليها بالتوكل على الله تعالى ، كان في المقام الأرفع من التوكل ; لأن الطيرة قد تلازم قلب الإنسان ولا يجد الانفصال عنها ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن الطيرة فقال : " ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم " فإذا استعمل المؤمن الإعراض عنها والتفويض إلى الله في أموره ، ذهب ما كان يجده منها ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود : " الطيرة شرك ، الطيرة شرك - ثلاثا - وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل " .

و (قوله : " إلا ") يعني استثناء ما يجده الإنسان منها في نفسه الذي قال فيه : " ذاك شيء يجدونه في صدورهم " .

وأما الكي ، فالمأمون منه جائز ، وقد كوى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبيا يوم الأحزاب على [ ص: 466 ] أكحله لما رمي . وفي البخاري عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الشفاء في ثلاث : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية بنار ، وأنا أنهى أمتي عن الكي " ، وفي حديث جابر : " وما أحب أن أكتوي " . وعلى هذا فالمأمون من الكي وإن كان نافعا - جائز ، إلا أن تركه خير من فعله ، وهذا معنى نهيه - صلى الله عليه وسلم - عنه ، وسببه أنه تعذيب بعذاب الله ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا تعذبوا بعذاب الله " يعني : النار . وبهذا ينفرد الكي ولا يلحق به التطبب بغير ذلك في الكراهة ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تطبب وطبب ، وأحال على الطبيب وأرشد إلى الطب بقوله : " يا عباد الله ! تداووا ، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء " .

وأما الرقي والاسترقاء ، فما كان منه من رقي الجاهلية أو بما لا يعرف ، فواجب اجتنابه على سائر المسلمين ، وتركه حاصل من أكثرهم ، فلا يكون اجتناب ذلك هو المراد هنا ، ولا اجتناب الرقي بأسماء الله تعالى وبالمروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لما قدمناه من أنه التجأ إلى الله ، وتبرك بأسمائه .

ويظهر لي - والله تعالى أعلم - أن المقصود : اجتناب رقي خارج عن القسمين ، كالرقي بأسماء الملائكة والنبيين والصالحين ، أو بالعرش والكرسي والسماوات والجنة والنار وما شاكل ذلك مما يعظم ، كما قد يفعله كثير ممن يتعاطى الرقى ، فهذا القسم ليس من قبيل الرقي المحظور الذي يعم [ ص: 467 ] اجتنابه ، وليس من قبيل الرقي الذي هو التجاء إلى الله تعالى وتبرك بأسمائه ، وكأن هذا القسم المتوسط يلحق بما يجوز فعله ، غير أن تركه أولى ; من حيث إن الرقي بذلك تعظيم ، وفيه تشبيه المرقي به بأسماء الله تعالى وكلماته ، فينبغي أن يجتنب لذلك . وهذا كما نقوله في الحلف بغير الله ، فإنه ممنوع ، فإن فيه تعظيما لغير الله تعالى بمثل ما يعظم به الله ، والله أعلم .

وهذا ما ظهر لي ، فمن ظهر له ذلك فليقبله شاكرا ، وإلا فليتركه عاذرا . وسيأتي الكلام في اشتقاق لفظ الطيرة في كتاب الصلاة ، إن شاء الله .

و (قوله : " وعلى ربهم يتوكلون ") التوكل لغة : هو إظهار العجز عن أمر ما ، والاعتماد فيه على الغير ، والاسم التكلان ، يقال منه : اتكلت عليه في أمري ، وأصله اوتكلت ، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، ثم أبدل منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال . ويقال : وكلته بأمر كذا توكيلا ، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها .

واختلف العلماء في التوكل وفيمن يستحق اسم المتوكل على الله ، فقالت طائفة من المتصوفة : لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره ، وحتى يترك السعي في طلب الرزق ; لضمان الله تعالى .

وقال عامة الفقهاء : إن التوكل على الله تعالى هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض ، واتباع سنة نبيه في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة . وإلى هذا ذهب محققو المتصوفة ، لكنه لا يستحق اسم المتوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب ، والالتفات إليها بالقلوب ، فإنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا ، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى ، والكل منه وبمشيئته . ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب ، فقد انسلخ عن ذلك الاسم .

[ ص: 468 ] ثم المتوكلون على حالين :

الحال الأول : حال المتمكن في التوكل ، فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه ، ولا يتعاطاها إلا بحكم الأمر .

الحال الثاني : حال غير المتمكن ، وهو الذي يقع له الالتفات إلى الأسباب أحيانا ، غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية والبراهين القطعية والأذواق الحالية ، فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتمكنين ، ويلحقه بدرجات العارفين .

و (قوله : " فقام إليه عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ") عكاشة هذا هو بضم العين وتشديد الكاف ، قال ثعلب . وقد تخفف . قال الشيخ - رحمه الله - : ولعله منقول من " عكاشة " اسم لبيت النمل بالتخفيف ، أو مأخوذ من عكش الشعر وتعكش إذا التوى . وعكاشة هذا من أفاضل الصحابة وخيارهم وشجعانهم ، له ببدر المقام المشهود والعلم المنشور ، وذلك أنه ضرب بسيفه في الكفار حتى انقطع ، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جزل حطب فأخذه فهزه فعاد في يده سيفا صارما ، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين . وكان ذلك السيف يسمى العون ، ولم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قتل عكاشة في الردة وهو عنده ، قتله طليحة الأسدي ، وهو الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " منا خير فارس في العرب " ، قالوا . ومن هو يا رسول الله ؟ قال : [ ص: 469 ] " عكاشة بن محصن " . ولقوة يقينه وشدة حرصه على الخير ورغبته فيما عند الله سبحانه ، سبق الصحابة كلهم بقوله : " ادع الله أن يجعلني منهم " . ولما لم يكن عند القائم بعده من تلك الأحوال الشريفة ما كان عند عكاشة ، قال له : " سبقك بها عكاشة " ، وأيضا فلئلا يطلب كل من هنالك ما طلبه عكاشة ، والرجل الآخر ، ويتسلسل الأمر ، فسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الباب بما قال لعكاشة . وهذا أولى من قول من قال : إن ذلك الرجل كان منافقا ; لوجهين :

أحدهما : أن الأصل في الصحابة صحة الإيمان والعدالة ، فلا يظن بأحد منهم شيء يقتضي خلاف ذلك الأصل ، ولا يسمع ما لا يصح نقله ، ولا يجوز تقديره .

والثاني : أنه قل أن يصدر مثل ذلك السؤال عن منافق ، إذ ذلك السؤال يقتضي تصديقا صحيحا ويقينا ثابتا ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية