المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3576 (4) باب إباحة أكل ميتة البحر وإن طفت

[ 1835 ] عن جابر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش، وزودنا جرابا من تمر، لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة. قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء، تكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله.

وفي رواية: فسمي جيش الخبط.

قال: وانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، قال: قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اضطررتم فكلوا. قال: فأقمنا عليه شهرا، ونحن ثلاثمائة، حتى سمنا. قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه الفدر كالثور، أو كقدر الثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا، فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال:
هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فأكله.


رواه أحمد (3 \ 311) ومسلم (1936) (17 و 18) وأبو داود (3840) والنسائي (7 \ 208).
(4) ومن باب إباحة أكل ميتة البحر

العير : الإبل المحملة.

قوله: ( وزودنا جرابا من تمر; لم يجد لنا غيره ) اختلفت ألفاظ الرواة في هذا المعنى; فمنها: ما ذكرناه. وفي رواية: (فكنا نحمل أزوادنا على رقابنا). وفي أخرى: (ففني زادهم). وفي "الموطأ": (فكان مزودي تمر) وفي أخرى: (فكان يعطينا قبضة قبضة، ثم أعطانا تمرة تمرة) ويلتئم شتات هذه الروايات بأن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - زادهم ذلك المزود أو المزودين إلى ما كان عندهم من زاد أنفسهم الذي كانوا يحملونه على رقابهم، ثم إنهم لما اشتدت بهم الحال جمع أبو عبيدة ما كان [ ص: 219 ] عندهم إلى المزود الذي زادهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يفرقه عليهم قبضة قبضة، إلى أن أشرف على النفاذ، فكان يعطيهم إياه تمرة تمرة إلى أن فني ذلك.

وجمع أبي عبيدة الأزواد، وقسمتها بالسوية: إما أن يكون حكما حكم به لما شاهد من ضرورة الحال، ولما خاف من تلف من لم يكن معه زاد، فظهر له أنه قد وجب على من معه زاد أن يحيي من ليس له شيء، أو يكون ذلك عن رضا من كان له زاد رغبة في الثواب، وفيما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - [في الأشعريين من أنهم إذا قل زادهم جمعوه فاقتسموه بينهم بالسوية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]: (فهم مني، وأنا منهم) وقد فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة. ولذلك قال بعض العلماء: إنه سنة.

و( الخبط ) بفتح الخاء والباء: اسم لما يخبط فيتساقط من ورق الشجر، وبسكون الباء: المصدر، وتبليلهم الخبط بالماء ليلين للمضغ، وإنما صاروا لأكل الخبط عند فقد التمرة الموزعة عليهم، وهذا كله يدل على ما كانوا عليه من الجد، والاجتهاد، والصبر على الشدائد العظام، والمشقات الفادحة؛ إظهارا للدين، وإطفاء لكلمة المبطلين. رضي الله عنهم أجمعين.

وساحل البحر وسيفه، وشطه، كل ذلك بمعنى واحد.

و( رفع لنا ) أي: ظهر لنا، واطلعنا عليه، وهو مبني لما لم يسم فاعله.

و( الكثيب ) و( الضرب ): الجبل الصغير، والكوم أصغر منه.

و( الضخم ): المرتفع الغليظ.

[ ص: 220 ] و(قوله: تدعى العنبر ) أي: تسمى بـ (العنبر) ولعلها سميت بذلك لأنها الدابة التي تلقي العنبر، وكثيرا ما يوجد العنبر على سواحل البحر، وقد وجد عندنا منه على ساحل البحر بقادس - موضع بالأندلس - قطعة كبيرة كالكوم، حصل لواجديه منه أموال عظيمة.

و(قول أبي عبيدة : ميتة ) أي: هي ميتة، فلا تقرب; لأنها حرام بنص القرآن العام، ثم إنه أضرب عما وقع له من ذلك لما تحقق من الضرورة المبيحة له، ولذلك قال: ( لا، بل نحن رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد اضطررتم فكلوا ) وهذا يدل على جواز حمل العموم على ظاهره، والعمل به من غير بحث عن المخصصات، فإن أبا عبيدة حكم بتحريم ميتة البحر تمسكا بعموم القرآن، ثم إنه استباحها بحكم الاضطرار، مع أن عموم القرآن في الميتة مخصص بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ولم يكن عنده خبر من هذا المخصص، ولا عند أحد من أصحابه.

و(قوله: فأقمنا عليها شهرا حتى سمنا ) دليل لمالك ولمن يقول بقوله: على أن المضطر يأكل من الميتة شبعه ، ويتبسط في أكلها، فإنها قد أبيحت له، وارتفع تحريمها في تلك الحال فأشبهت الذكية، وخالفه في ذلك جماعة، منهم: الحسن ، والنخعي ، وقتادة ، وابن حبيب ، فقالوا: لا يأكل منها حتى يضطر إليها ثانية، ولا يأكل منها إلا ما يقيم رمقه. وقال عبد الملك : إن تغدى حرمت عليه [ ص: 221 ] يومه، وإن تعشى حرمت عليه ليلته، وهذا الذي قاله هؤلاء تعضده القاعدة، وهي: أن كل ما أبيح لضرورة فيتقدر بقدرها، على أنه يمكن أن يقال في قضية أبي عبيدة ، وأكلهم من تلك الميتة شهرا حتى سمنوا: إن ذلك القدر كان قدر ضرورتهم، وذلك أنهم كانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع، والضعف، وسقطت قواهم، وهم مستقبلون سفرا، وعدوا، فإن لم يفعلوا ذلك ضعفوا عن عدوهم، وانقطعوا عن سفرهم، وهذا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه عند الفتح: (تقووا لعدوكم، والفطر أقوى لكم).

و(قوله: حتى سمنا ) يعني: تقوينا، وزال ضعفنا، كما قال في الرواية الأخرى: (حتى ثابت إلينا أجسامنا) أي: رجعت إلينا قوتنا، وإلا فما كانوا سمانا قط.

و(حجاج العين) يقال: بفتح الحاء وكسرها، وهو الوقب أيضا، وهو غار العين الذي فيه حبتها. وأصل الوقب: الحفرة في الحجر.

و( الفدر ): جمع فدرة: وهي القطعة من اللحم والعجين، وشبههما، وهي: ( الثور ) أيضا، وجمعه: أثوار، والمراد بها هنا: قطع العجين أو السويق، ولذلك شبه قطع اللحم بها; إذ قال: كقدر الثور.

فإن قيل: كيف جاز لهم أن يأكلوا من هذه الميتة إلى شهر، ومعلوم: أن اللحم إذا أقام هذه المدة، بل أقل منها، أنه ينتن، ويشتد نتنه، فلا يحل الإقدام عليه، كما تقدم في الصيد; إذ قال: (كله ما لم ينتن).

فالجواب: أن يقال: لعل ذلك لم ينته نتنه إلى حال يخاف منه الضرر لبرودة [ ص: 222 ] الموضع، أو يقال: إنهم أكلوه طريا، ثم ملحوه، وجعلوه وشائق; أي: قددوه قدائد، كما يفعل باللحم. ويقال فيه: وشقت اللحم، فاتشق، والوشيقة: القديدة، وعلى هذا يدل قوله: ( ونقتطع منه الفدر ) أي: القطع الكبار.

و(قوله: وتزودنا من لحمه وشائق ) أي: قدائد، وهذا اللفظ يدل أيضا على أنه يتزود من الميتة إذا خاف ألا يجد غيرها، فإن وجد غيرها، أو ارتجى وجوده لم يستصحبها، وهو قول مالك وغيره من العلماء.

و(قوله: كنا نغترف من وقب عينها بالقلال الدهن ) دليل على أنهم كانوا يجيزون الانتفاع بشحوم الميتة، وبالزيت النجس، كما يقوله ابن القاسم ، ويجنب المساجد. وخالفه عبد الملك وغيره، فقالوا: لا ينتفع بشيء من ذلك; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في سمن الفأرة: (إن كان مائعا فلا تقربوه).

و(قوله - صلى الله عليه وسلم -: هو رزق الله أخرجه لكم ) تذكير لهم بنعمة الله تعالى ليشكروه عليها.

و(قوله - صلى الله عليه وسلم -: فهل عندكم شيء منه فتطعمونا) وأكله منه ليبين لهم بالفعل جواز أكل ميتة البحر في غير الضرورة، وأنها لم تدخل في عموم الميتة المحرمة في القرآن، كما قد بين ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته).

وفي [ ص: 223 ] هذا الحديث للجمهور رد على من قال بمنع ما طفا من ميتات الماء. وهو: طاوس ، وابن سيرين ، وحماد بن زيد ، وأصحاب الرأي - أبو حنيفة وأصحابه - وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال: يؤكل ما يوجد في حافتي البحر، وما جزر عنه، ولا يؤكل ما طفا. ومثله روي عن ابن عباس ، وكأنهما قصرا الإباحة على حديث أبي عبيدة المذكور.

والصحيح: الإباحة في الجميع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) والله تعالى أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية