المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3985 (3) باب ما يكره أن يسمى به الرقيق

[ 2048 ] عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت، ولا تسمين غلامك يسارا، ولا رباحا، ولا نجيحا، ولا أفلح، فإنك تقول: أثم هو؟ فلا يكون، فيقول: لا. إنما هن أربع، فلا تزيدن علي.

وفي رواية: نافعا بدل نجيحا.

رواه مسلم (2136) (11) و(2137) (12) وأبو داود (4958) والترمذي (2838).
(3) ومن باب ما يكره أن يسمى به الرقيق

قوله: ( أحب الكلام إلى الله أربع ) أي: أحقه قبولا، وأكثره ثوابا، ويعني بالكلام: المتضمن للأذكار، والدعاء، والقرب من الكلام، وإنما كانت هذه الكلمات كذلك; لأنها تضمنت تنزيهه عن كل ما يستحيل عليه، ووصفه بكل ما يجب له من أوصاف كماله، وانفراده بوحدانيته، واختصاصه بعظمته وقدمه المفهومين من أكبريته. ولتفصيل هذه الجمل علم آخر.

و(قوله: لا يضرك بأيهن بدأت ) يعني: أن تقديم بعض هذه الكلمات على بعض لا ينقص ثوابها، ولا يوقف قبولها; لأنها كلها كلمات جامعات طيبات مباركات.

و(قوله: لا تسمين غلامك يسارا، ولا رباحا، ولا نجيحا، ولا أفلح ) هذا نهي صحيح عن تسمية العبد بهذه الأسماء، لكنه على جهة التنزيه بدليل قول جابر [ ص: 462 ] في الحديث الآتي: أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينهى أن يسمى بمقبل، وببركة، وبأفلح، وبيسار، وبنافع، ونحو ذلك، ثم سكت; يعني: أراد أن ينهى عن ذلك نهي تحريم، وإلا فقد صدر النهي عنه على ما تقدم، لكنه على وجه الكراهة التي معناها: أن ترك المنهي عنه أولى من فعله; لأن التسمية بتلك الأسماء تؤدي إلى أن يسمع ما يكرهه، كما نص عليه بقوله: ( فإنك تقول: أثم هو فلان، فلا يكون; فتقول: لا ).

وبالنظر إلى هذا المعنى، فلا تكون هذه الكراهة خاصة بالعبيد، بل: تتعدى إلى الأحرار. ولا مقصورة على هذه الأربعة الأسماء، بل تتعدى إلى ما في معناها؛ ولهذا أشار جابر في حديثه بقوله، وبنحو ذلك.

وحينئذ يقال: فما فائدة تخصيص الغلام بالذكر؟ وكيف يعدى إلى زيادة على الأربع، وقد قال في بقية الحديث: إنما هي أربع، فلا تزيدن علي؟ فالجواب عن الأول من وجهين:

أحدهما: أنا لا نسلم أن المراد بالغلام العبد، بل الصغير; فإنه يقال عليه: غلام إلى أن يبلغ، وللأنثى: جارية، كما تقدم.

والثاني: أنا وإن سلمنا ذلك لكن إنما خصص العبد بالذكر؛ لأن هذه الأسماء إنما كانت في غالب الأمر أسماء لعبيدهم، فخرج النهي على الغالب.

والجواب عن الثاني: أن قوله: فلا تزيدن علي إنما هو من قول سمرة بن جندب ، وإنما قال ذلك ليحقق: أن الذي سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هي الأربع، لا زيادة عليها; تحقيقا لما سمع، ونفيا لأن يقول ما لم يقل. ولئن سلم أن ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس معناه المنع من القياس، بل عن أن يقول اسما لم يقله، فإن [ ص: 463 ] الفرع ملحق بأصله في الحكم، لا في القول.

وبيانه: إنا وإن ألحقنا الزبيب بالتمر في تحريم الربا فلا نقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الربا في الزبيب حرام. فإنه قول كاذب، ولو كان ذلك صادقا لكان الزبيب منطوقا به، فحينئذ لا يكون فرعا. بل: أصلا. وقد اجترأت طائفة عراقية على إطلاق ذلك. ونعوذ بالله مما أطلق هنالك.

وعلى ما قررناه فلا يكون بين حديث سمرة بن جندب ولا بين حديث جابر - رضي الله عنهم - معارضة، فلا يكون بينهما نسخ، خلافا لمن زعمه، وقال: إن حديث جابر ناسخ لحديث سمرة ، وما ذكرناه أولى. والله تعالى أعلم.

فإن قيل: بل المصير إلى النسخ أولى; لأن حديث سمرة - وإن حمل على الكراهة - فحديث جابر يقتضي الإباحة المطلقة; لأنه لما سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النهي عن ذلك إلى حين موته، وكذلك عمر - رضي الله عنه - مع حصول ذلك في الوجود كثيرا، فقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - غلام اسمه: رباح ، ومولى اسمه: يسار ، وقد سمى ابن عمر مولاه: نافعا . ومثله كثير. فقد استمر العمل على حديث جابر ، فإذا هو متأخر، فيكون ناسخا.

والجواب: إن هذا التقدير يلزم منه أن لا يصدق قول جابر : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن ينهى عن ذلك، فإنه قد وجد النهي ولا بد، وهو صادق، فلا بد من تأويل لفظه. وما ذكرناه أولى. وما ذكر من تسمية موالي النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره بتلك الأسماء فصحيح; لأن ذلك جائز، وغاية ما ترك فيه الأولى، فكم من أولى قد سوغت الشريعة تركه، وإن فات بفوته أجر كثير، وخير جزيل; عملا بالمسامحة والتيسير، وتركا للتشديد والتعسير.

التالي السابق


الخدمات العلمية