المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4035 (12) باب في احتجاب النساء وما يخفف عنهن من ذلك

[ 2079 ] عن عائشة: أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن، إلى المناصع - وهو صعيد أفيح - وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي، عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر: ألا قد عرفناك، يا سودة! حرصا على أن ينزل الحجاب. قالت عائشة: فأنزل الحجاب.

رواه البخاري (146) ومسلم (2170) (18).
(12) ومن باب احتجاب النساء وما يخفف عنهن من ذلك

قوله: ( كن يخرجن بالليل يتبرزن إلى المناصع ) يتبرزن: يخرجن إلى البراز- بفتح الباء - وهو الموضع الذي يتبرز فيه; أي: يظهر. والبروز: الظهور، ومنه: وترى الأرض بارزة أي: ظاهرة مستوية لا يحجبها شيء، كما قال تعالى: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا .

و( المناصع ): موضع خارج المدينة .

و(قوله: وهو صعيد أفيح ) أي: أرض مستوية متسعة، وذلك كناية عن [ ص: 495 ] خروجهن إلى الحدث; إذ لم يكن لهم كنف في البيوت; كانوا لا يتخذونها استقذارا، فكانت النساء يخرجن بالليل إلى خارج البيوت، ويبعدن عنها إلى هذا الموضع. وقد نصت على هذا عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك.

وقول عمر - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( احجب نساءك ) مصلحة ظهرت لعمر فأشار بها، ولا يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أن تلك المصلحة خفيت عليه، لكنه كان ينتظر الوحي في ذلك، ولذلك لم يوافق عمر على ذلك حين أشار عليه به، لا سيما وقد كانت عادة نساء العرب ألا يحتجبن لكرم أخلاق رجالهم، وعفاف نسائهم غالبا، ولذلك قال عنترة:


وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها

فلما لم يكن هنالك ريبة تركهم، ولم ينههم؛ استصحابا للعادة، وكراهة لابتداء أمر أو نهي; فإنه كان يحب التخفيف عن أمته.

ففيه من الفقه: الإشارة على الإمام بالرأي، وإعادة ذلك إن احتاج إليها، وجواز إشارة المفضول على الفاضل، وجواز إعراض المشار عليه، وتأخير الجواب إلى أن يتبين له وجه يرتضيه.

وقول عمر - رضي الله عنه - في هذا الحديث: ( ألا قد عرفناك يا سودة ) يقتضي: أن ذلك كان من عمر - رضي الله عنه - قبل نزول الحجاب; لأن عائشة رضي الله عنها قالت فيه: حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الحجاب.

والرواية الأخرى تقتضي أن ذلك كان بعد نزول الحجاب، فالأولى أن يحمل ذلك على أن عمر تكرر منه هذا القول قبل نزول الحجاب وبعده، ولا بعد فيه.

ويحتمل [ ص: 496 ] أن يحمل ذلك على أن بعض الرواة ضم قصة إلى أخرى، والأول أولى; فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقع في قلبه نفرة عظيمة، وأنفة شديدة من أن يطلع أحد على حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى صرح له بقوله: احجب نساءك; فإنهن يراهن البر والفاجر، ولم يزل ذلك عنده إلى أن نزل الحجاب وبعده، فإنه كان قصده: ألا يخرجن أصلا، فأفرط في ذلك فإنه مفض إلى الحرج والمشقة، والإضرار بهن، فإنهن محتاجات إلى الخروج؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تأذت بذلك سودة : ( قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن ).

و(قوله: فأنزل الحجاب ) أي: آية الحجاب; وهي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى قوله: وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب كذلك روي عن أنس وابن مسعود - رضي الله عنهما - غير أن هذا يتوجه عليه إشكال، وهو: أن حديث أنس وابن مسعود يقتضي أن سبب نزولها هو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أعرس بزينب اجتمع عنده رجال فجلسوا في بيته، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فأطالوا المجلس حتى ثقلوا عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وحديث عائشة يقتضي أن الحجاب إنما نزل بسبب قول عمر : احجب نساءك. ويزول ذلك الإشكال بأن يقال: إن الآية نزلت عند مجموع السببين. فيكون عمر قد تقدم قوله: احجب نساءك، وكرر ذلك عليه إلى أن اتفقت قصة بناء زينب ، فصدقت نسبة نزول الآية لكل واحد من ذينك السببين.

[ ص: 497 ] قلت: وهذا الحجاب الذي أمر به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وخصصن به هو في الوجه والكفين.

قال القاضي عياض : لا خلاف في فرضه عليهن في الوجه والكفين الذي اختلف في ندب غيرهن إلى ستره، قالوا: ولا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا غيرها، ولا ظهور أشخاصهن، وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج إلى البراز، وقد كن إذا خرجن جلسن للناس من وراء حجاب، وإذا خرجن لحاجة حجبن وسترن.

التالي السابق


الخدمات العلمية