المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4050 (18) باب امتهان ذات القدر نفسها في خدمة زوجها وفرسه لا يغض من قدرها

[ 2092 ] عن أسماء بنت أبي بكر قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه، قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مئونته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، وأعلفه، وأستقي الماء، وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، فكان يخبز لي جارات من الأنصار، وكن نسوة صدق، قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير - التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم - على رأسي، وهي على ثلثي فرسخ، قالت: فجئت يوما والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه، فدعاني ثم قال: إخ! إخ، ليحملني خلفه، قالت: فاستحييت وعرفت غيرتك، فقال: والله! لحملك النوى على رأسك أشد من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقتني.

رواه أحمد (6 \ 347) والبخاري (5224) ومسلم (2182) (34).
(18) ومن باب امتهان ذات القدر نفسها في خدمة زوجها

(قولها : تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال، ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه ) هذا يدل على ما كانوا عليه من شدة الحال في أول الأمر، وعلى أن المعتبر عندهم في الكفاءة إنما كان الدين والفضل لا المال والغنى، كما [ ص: 517 ] قال - صلى الله عليه وسلم -: (فعليك بذات الدين تربت يداك) وإنما كان ذلك; لأن القوم كانت مقاصدهم في النكاح التعاون على الدين، وتكثير أمة محمد خاتم النبيين، ولأنهم علموا أن المال ظل زائل، وسحاب حائل، وأن الفضل باق إلى يوم التلاق. فأما اليوم فقد انعكست الحال، وعدل الناس عن الواجب إلى المحال.

وقولها: ( فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤونته ... إلخ الكلام) فيه ما يدل على ما كانوا عليه من تبذل المرأة في خدمة زوجها وبيته وفرسه، وإن كانت شريفة. لكن هذا كله فعلته متبرعة بذلك مختارة له، راغبة؛ لما علمت فيه من الأجر، والثواب، وعونا لزوجها على البر والتقوى. ولا خلاف في حسن ذلك، ولا في أن كل ذلك ليس بواجب عليها; إذ لا يجب عليها أن تخرز الغرب، ولا أن تخدم الفرس، ولا أن تنقل النوى، وإنما اختلف في خدمة بيتها من عجن، وطبخ، وكنس، وفرش; فالشريفة ذات القدر التي رفع في صداقها لا يجب عليها أن تفعل شيئا من ذلك، ولا يحكم عليها به، ولا يجب عليها عند مالك أن تأمر الخدم بذلك، ولا تنهاهم، وليس عليها إلا أن تمكن من نفسها. وقال بعض شيوخنا عليها أن تأمرهم وتنهاهم بما يصلح حال زوجها; إذ لا كلفة عليها في ذلك، ولجريان العادة بمثله في الأشراف.

وفي كتاب ابن حبيب : عليها في العسر الخدمة الباطنة، كما [ ص: 518 ] هي على الدنية. وأما من ليست كذلك فيجب عليها من خدمة بيتها ما جرت العادة بأن مثلها تفعله.

ومأخذ هذا الباب عندنا النظر إلى العوائد; فإن الإنسان إذا تزوج عند قوم، فالغالب أنه يبحث عن عاداتهم، ومناشئهم، فيعلمها، ولا يكاد يخفى عليه حالهم. فإذا تزوج ممن عادتهم أن لا تخدم نساؤهم أنفسهن، وإنما يخدمن، فقد دخل على أنه يبقيها على عادتها، ويسير بها سيرة نسائها، فلا يحكم له عليها بشيء من ذلك. بخلاف من جرت عادتها بأن مثلها لا تخدم، وإنما تخدم نفسها، فإنه يحكم له عليها بما ذكر من خدمة بيتها، وكذلك في رضاع الولد.

فأما من يجهل حالها، ولا يعلم عادة نسائها: فالأصل: أنها تخدم نفسها، فيحكم عليها بذلك، وبرضاعة الولد إلى أن يتبين أنها شريفة لها الحال والقدر. هذا أصل مالك وتفريعه، وقد خولف في ذلك; فمن الناس من لا يرى على المرأة خدمة مطلقا. ومنهم من يرى عليها الخدمة مطلقا، وهو أحوط. والأحسن التفصيل الذي صار إليه مالك والله تعالى أعلم.

و( الغرب ): الدلو العظيمة.

وقولها: ( كنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسي ) قيل: إن هذه الأرض المقطعة من موات البقيع ، أقطعه من ذلك حضر فرسه، فأجراه، ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة فأعطاه ذلك كله.

.وفي البخاري عن عروة أنه - صلى الله عليه وسلم - أقطع الزبير أرضا من أموال بني النضير ، وليست هذه الأرض التي [ ص: 519 ] كانت أسماء تنقل منها النوى على رأسها؛ لقولها: وهي على ثلثي فرسخ، فالأشبه أنها الأرض التي بالبقيع كما تقدم في القول الأول.

ففيه من الفقه ما يدل على جواز إقطاع الإمام الأرض لمن يراه من أهل الفضل، والحاجة، والمنفعة العامة، كالعلماء، والمجاهدين، وغيرهم، لكن تكون تلك الأرض المقطعة من موات الأرض أو من الأرض الموقوفة لمصالح المسلمين كما قدمناه في الجهاد.

وفيه ما يدل على جواز الاستزادة من الحلال، وإظهار الرغبة فيه، كما فعل الزبير - رضي الله عنه - حيث أجرى فرسه، فلما وقف رمى بسوطه رغبة في الزيادة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبصر ذلك كله، ولم ينكره عليه.

وليس إقطاع الإمام تمليكا للرقبة، وإنما هو اختصاص بالمنفعة، لكن لو أحيا الموات المقطع لكان للمحيي؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أحيا أرضا ميتة فهي له).

وقولها: ( فلقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه، فدعاني، ثم قال: إخ، إخ ) تعني به: أنه نوخ ناقته ليركبها عليها.

و(إخ) - بكسر الهمزة وسكون الخاء - وهو صوت تنوخ به الإبل. وظاهر هذا المساق يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - عرض عليها الركوب، فلم تركب; لأنها استحيت، كما قالت. وعلى هذا فلا يحتاج إلى اعتذار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ركوبها معه، فإنه يحتمل أنها لو اختارت الركوب تركها راكبة وحدها، ولا يكون فيه من حيث هذا اللفظ دليل على جواز ركوب اثنين على بعير، فتأمله.

وقولها: ( وعرفت غيرتك ) تعني: ما جبل عليه من الغيرة، وإلا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغار لأجله، كما قال عمر - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (وعليك أغار [ ص: 520 ] يا رسول الله!) حين أخبره أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى قصرا من قصور الجنة فيه امرأة من نساء الجنة فقال: (لمن أنت؟) فقالت: لعمر بن الخطاب قال - صلى الله عليه وسلم -: (فذكرت غيرتك) فتوقع النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريك الغيرة بحكم الجبلة، وإن لم يغر لأجله.

وقول الزبير : ( والله! لحملك النوى على رأسك أشد علي من ركوبك معه ) هذا يدل على أن الزبير لم يكلفها شيئا من ذلك، وإنما فعلت هي ذلك لحاجتها إلى ذلك، وتخفيفا عن زوجها; على عادة أهل الدين والفضل الذين لا التفات عندهم لشيء من زينة الدنيا، ولا من أحوال أهلها، فإنهم كانوا لا يعيبون على أنفسهم إلا ما عابه الشرع، فكانوا أبعد الناس منه، وأخرج هذا القول من الزبير فرط الاستحياء المجبول عليه أهل الفضل. ويعني بذلك: أن الحياء الذي لحقه من تبذلها بحمل النوى على رأسها أشد عليه من الغيرة التي كانت تلحقه عليها لو ركبت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ليس ممن يغار على الحريم لأجله. والله تعالى أعلم.

وقولها: ( حتى أرسل إلي أبو بكر - رضي الله عنه - بعد ذلك بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقتني ) دليل على مكارم أخلاق القوم، فإن أبا بكر - رضي الله عنه - علم ما كانت عليه ابنته من الضرر والمشقة، ولم يطالب صهره بشيء من ذلك، وكان مترقبا لإزالة ذلك، فلما تمكن منه أزاله من عنده.

[ ص: 521 ] و( الخادم ) يقال على الذكر والأنثى.

و( أعتقتني ) روي بتاء بعد القاف، ويكون فيه ضمير يعود على الخادمة. وبغير تاء، وضميره يعود إلى أبي بكر - رضي الله عنه - وصح ذلك لأنها لما استراحت من خدمة الفرس، والقيام عليه بسبب الجارية التي بعث بها إليها أبو بكر صح أن ينسب العتق لكل واحد منهما.

التالي السابق


الخدمات العلمية