المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
28 (6) باب

أول ما يجب على المكلفين

[ 16 ] عن ابن عباس ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال : إنك ستقدم على قوم أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل ، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ، فإذا فعلوا ، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم ، وترد على فقرائهم ، فإذا أطاعوا بها ، فخذ منهم وتوق كرائم أموالهم .

وفي رواية عن ابن عباس ، عن معاذ ، قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك ، فأعلمهم أن الله افترض . . . وذكر الحديث نحوه ، وزاد : واتق دعوة المظلوم ; فإنه ليس بينها وبين الله حجاب .

رواه أحمد ( 1 \ 233 ) ، والبخاري ( 1458 ) و ( 4347 ) و (7371) ، ومسلم ( 19 ) ، وأبو داود ( 1584 ) ، والترمذي ( 625 ) ، والنسائي ( 5 \ 52 و 55 ) ، وابن ماجه ( 1783 ) .


[ ص: 181 ] (6) ومن باب أول ما يجب على المكلفين

(قوله : " إنك ستقدم على قوم أهل كتاب ") يعني به : اليهود والنصارى ; لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب ، وإنما نبهه على هذا ; ليتهيأ لمناظرتهم ، ويعد الأدلة لإفحامهم ; لأنهم أهل علم سابق ، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان .

و (قوله : " فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ") قد تقدم أن أصل العبادة التذلل والخضوع ، وسميت وظائف الشرع على المكلفين : عبادات ; لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى . والمراد بالعبادة هنا : هو النطق بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ; كما جاء في الرواية الأخرى مفسرا : فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله .

و (قوله : " فإذا عرفوا الله ، فأخبرهم ") أي : إن أطاعوا بالنطق بذلك ، أي : بكلمتي التوحيد ; كما قال في الرواية الأخرى : فإن هم أطاعوا بذلك فأعلمهم ، فسمى الطواعية بذلك والنطق به : معرفة ; لأنه لا يكون غالبا إلا عن المعرفة . وهذا الذي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به معاذا ، هو الدعوة قبل القتال ; التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي بها أمراءه ، وقد اختلف في حكمها على ما يأتي في الجهاد .

وعلى هذا فلا يكون في حديث معاذ حجة لمن تمسك به من المتكلمين على أن أول واجب على كل مكلف : معرفة الله تعالى بالدليل والبرهان ، بل هو حجة لمن يقول : إن أول [ ص: 182 ] الواجبات التلفظ بكلمتي الشهادة ، مصدقا بها .

وقد اختلف المتكلمون في أول الواجبات على أقوال كثيرة ، منها ما يشنع ذكره ، ومنها ما ظهر ضعفه ، والذي عليه أئمة الفتوى ، وبهم يقتدى كمالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهم من أئمة السلف : أن أول الواجبات على المكلف : الإيمان التصديقي الجزمي الذي لا ريب معه بالله تعالى ورسله وكتبه ، وما جاءت به الرسل ، على ما تقرر في حديث جبريل ، كيفما حصل ذلك الإيمان ، وبأي طريق إليه توصل ، وأما النطق باللسان : فمظهر لما استقر في القلب من الإيمان ، وسبب ظاهر تترتب عليه أحكام الإسلام . وتفصيل ما أجملناه يستدعي تفصيلا وتطويلا يخرج عن المقصود ، ولعلنا بعون الله تعالى نكتب في هذه المسألة جزءا ; فإنها حرية بذلك .

وقد احتج بهذا الحديث من قال بأن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة ; وهو أحد القولين لأصحابنا وغيرهم ; من حيث إنه - عليه الصلاة والسلام - إنما خاطبهم بالتوحيد أولا ، فلما التزموا ذلك خاطبهم بالفروع التي هي الصلاة والزكاة ، وهذا لا حجة فيه ; لوجهين :

أحدهما : أنه لم ينص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه إنما قدم الخطاب بالتوحيد لما ذكروه ، بل يحتمل ذلك ، ويحتمل أن يقال : إنه إنما قدمه لكون الإيمان شرطا مصححا للأعمال الفروعية ، لا للخطاب بالفروع ; إذ لا يصح فعلها شرعا إلا بتقدم وجوده ، ويصح الخطاب بالإيمان وبالفروع معا في وقت واحد ، وإن كانت في الوجود متعاقبة ; كما بيناه في " الأصول " ; وهذا الاحتمال أظهر مما تمسكوا به ، ولو لم يكن أظهر ، فهو مساو له ; فيكون ذلك الخطاب مجملا بالنسبة إلى هذا الحكم .

وثانيهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رتب هذه القواعد ; ليبين الأوكد فالأوكد ، والأهم فالأهم ; كما بيناه في حديث ابن عمر الذي قبل هذا ، والله تعالى أعلم .

[ ص: 183 ] واقتصار النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذكر القواعد الثلاث ; لأنها كانت هي المتعينة عليهم في ذلك الوقت المتأكد فيه ; ولا يظن أن الصوم والحج لم يكونا فرضا إذ ذاك ; لأن إرسال معاذ إلى اليمن كان في سنة تسع ، وقد كان فرض الحج ، وأما الصوم : ففرض في السنة الثانية من الهجرة ، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ باليمن على الصحيح .

وقول من قال : إن الرواة سكتوا عن ذكر الصوم والحج ; قول فاسد ; لأن الحديث قد اشتهر ، واعتنى الناس بنقله سلفا وخلفا ; فلو ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له شيئا من ذلك لنقل .

و (قوله : " إن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد على فقرائهم ") دليل لمالك على أن الزكاة لا تجب قسمتها على الأصناف المذكورين في الآية ، وأنه يجوز للإمام أن يصرفها إلى صنف واحد من الأصناف المذكورين في الآية ; إذا رآه نظرا ومصلحة دينية ، وسيأتي هذا كاملا في كتاب الزكاة ، إن شاء الله تعالى .

وفيه دليل لمن يقول : يدفعها من وجبت عليه للإمام العدل ، الذي يضعها مواضعها ، ولا يجوز لمن وجبت عليه أن يلي تفرقتها بنفسه إذا أقام الإمام من تدفع إليه ، ومن ذلك تفصيل يعرف في الفروع .

و (قوله : " وإياك وكرائم أموالهم ") أي : خيارها ونفائسها ; حذره من ذلك ; نظرا لأرباب الأموال ، ورفقا بهم ، وكذلك أيضا : لا يأخذ من شرار المال ولا معيبه ; نظرا للفقراء ; فلو طابت نفس رب المال بشيء من كرائم أمواله ; جاز [ ص: 184 ] للمصدق أخذها منه ، ولو أن المصدق رأى أن يأخذ معيبة على وجه النظر والمصلحة للفقراء جاز .

و (قوله : " واتق دعوة المظلوم ; فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ") الرواية الصحيحة في " فإنه " بضمير المذكر ; على أن يكون ضمير الأمر والشأن ، ويحتمل : أن يعود على مذكر الدعوة ; فإن الدعوة دعاء .

ووقع في بعض النسخ : فإنها بهاء التأنيث ، وهو عائد على لفظ الدعوة . ويستفاد منه : تحريم الظلم ، وتخويف الظالم ، وإباحة الدعاء للمظلوم عليه ، والوعد الصدق بأن الله تعالى يستجيب للمظلوم فيه ، غير أنه قد تعجل الإجابة فيه ، وقد يؤخرها إملاء للظالم ; كما قال - عليه الصلاة والسلام - : إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ، وكما قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الله تعالى يرفع دعوة المظلوم على الغمام ، ويقول لها : لأنصرنك ولو بعد حين .

التالي السابق


الخدمات العلمية