المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4166 [ 2114 ] وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر.

وفي رواية مرفوعا: يؤذيني ابن آدم; يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار.

رواه أحمد (2 \ 272) والبخاري (6181) ومسلم (2246) (2 و 5).
[ ص: 547 ] (27) ومن باب النهي عن سب الدهر

قول أبي هريرة - رضي الله عنه -: ( قال الله تبارك وتعالى: يؤذيني ابن آدم) الحديث; جاء هذا الحديث في هذه الرواية موقوفا على أبي هريرة لم يذكر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير أنه مما يعلم أنه من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطعا; لأن مضمونه حكاية عن الله تعالى، ولا يعرفها أبو هريرة إلا من جهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد روي معناه مسندا مرفوعا من طريق آخر، غير أن مساق هذا الحديث أكمل؛ فلذلك اخترناه.

وقوله تعالى: ( يؤذيني ابن آدم ) أي: يخاطبني من القول بما يتأذى به من يصح في حقه التأذي، لا أن الله تعالى يتأذى; لأن التأذي ضرر وألم، والله تعالى منزه عن ذلك، وهذا يجري مجرى ما جاء من محاربة الله ومخادعته. وهذه كلها توسعات يفهم منها أن من يعامل الله تعالى بتلك المعاملات تعرض لعقاب الله تعالى، ولمؤاخذته الشديدة. فليحذر ذلك.

ويراد بابن آدم هنا: أهل الجاهلية، ومن جرى مجراهم ممن يطلق هذا اللفظ، ولا يتحرز منه، فإن الغالب من أحوال بني آدم إطلاق نسبة الأفعال إلى الدهر، فيذمونه، ويسفهونه إذا لم تحصل لهم أغراضهم، ويمدحونه إذا حصلت لهم. وأكثر ما يوجد ذلك في كلام الشعراء والفصحاء، ولا شك في كفر من نسب [ ص: 548 ] تلك الأفعال أو شيئا منها للدهر حقيقة، واعتقد ذلك.

وأما من جرت هذه الألفاظ على لسانه ولا يعتقد صحة تلك فليس بكافر، ولكنه قد تشبه بأهل الكفر وبالجاهلية في الإطلاق، وقد ارتكب ما نهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – عنه، فليتب، وليستغفر الله تعالى.

والدهر والزمان والأبد: كلها بمعنى واحد، وهو راجع إلى حركات الفلك، وهي الليل والنهار.

و(قوله: لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر ) ليس هذا النهي مقصورا على هذا اللفظ، بل يلحق به كل ما في معناه من قولهم: خرف الفلك، وانعكس الدهر، وتعس، وما في معنى ذلك.

و(قوله: فإني أنا الدهر ) الرواية الصحيحة المشهورة فيه برفع الدهر; على أنه خبر (إن) إن جعلنا (أنا) فصلا. وإن جعلناها مبتدأ فهو خبره. وقد قيدها بعض الناس (الدهر) بالنصب; على أن تكون ظرفا يعمل فيه (أقلب) فكأنه قال: أنا طول الدهر أقلب الليل والنهار، ويكون (أقلب) هو الخبر، والذي حمله على ذلك خوف أن يقال: إن الدهر من أسماء الله تعالى، وهذا عدول عما صح إلى ما لم يصح مخافة ما لا يصح، فإن الرواية الصحيحة عند أهل التحقيق بالضم، ولم يرو الفتح من يعتمد عليه، ولا يلزم من ثبوت الضم أن يكون الدهر من أسماء الله تعالى; لأن أسماء الله تعالى لا بد فيها من التوقيف عليها، أو استعمالها استعمال الأسماء من الكثرة والتكرار، فيخبر به، وينادى به، كما اتفق في سائر أسماء الله تعالى كالغفور، والشكور، والعليم، والحليم، وغير ذلك من أسمائه، فإنك تجدها في [ ص: 549 ] الشريعة وفي لسان أهلها، تارة يخبر بها، وأخرى يخبر عنها، وأخرى يدعى وينادى بها، ولم يوجد للدهر شيء من ذلك، فلا يكون اسما من أسمائه تعالى.

ثم لو سلم أن النصب يصح في ذلك اللفظ على ذلك الوجه، فلا يصح شيء من ذلك في الرواية التي قال فيها: (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر) ولم يذكر: (أقلب الليل والنهار)؟ ولا يصح أن يقال: إن هذه الرواية مطلقة والأولى مقيدة; لأنا إن صرنا إلى ذلك لزم نصب (الدهر) بعامل محذوف ليس في الكلام ما يدل عليه، ولزم حذف الخبر، ولا دليل عليه. وكل ذلك باطل من اللسان قطعا، وإذا ثبت ذلك، فاعلم: أنه لما كان اعتقاد الجاهلية أن الدهر هو الذي يفعل الأفعال، ويذمونه إذا لم تحصل أغراضهم، أعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله يفعل كل شيء، فإذا سبوا الدهر من حيث إنه الفاعل، ولا فاعل إلا الله، فكأنهم سبوا الله تعالى، فلذلك قال الله تعالى: (يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر) أي: أنا الذي أفعل ما ينسبونه للدهر، لا الدهر، فإنه ليل ونهار، وأنا أقلبهما; أي: أتصرف فيهما بالإطالة، والإقصار، والإضاءة، والإظلام.

وفيه تنبيه على أن ما يفعل ويتصرف فيه لا يصلح لأن يفعل، وهذا المعنى هو الذي عبر عنه الحكماء بقولهم: ما له طبيعة عدمية يستحيل أن يفعل فعلا حقيقيا. والله تعالى أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية