المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4060 (3) باب ما جاء أن السموم وغيرها لا تؤثر بذاتها

[ 2130 ] عن أنس: أن امرأة يهودية، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك، قال: ما كان الله ليسلطك على ذلك قال - أو قال: علي قال -: قالوا: ألا تقتلها؟ قال: لا. قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رواه البخاري (2617) ومسلم (2190) وأبو داود (4508).
(3) ومن باب ما جاء أن السموم لا تؤثر بذاتها

قوله: (إن يهودية أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة ) ظاهره: أنها أتته بها على وجه الهدية، فإنه كان يقبل الهدية، ويثيب عليها. ويحتمل أن تكون ضيافة، وأبعد ذلك أن تكون بيعا. وفي غير كتاب مسلم : أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ من الشاة الذراع، فأكل منها هو وبشر بن البراء ، وأنه قال عند ذلك: (إن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة) فأحضرت اليهودية، فسئلت عن ذلك، فاعترفت، وقالت: إنما فعلت ذلك; لأنك إن كنت نبيا لم يضرك، وإن كنت كاذبا أرحت منك.

وفي كتاب مسلم قالت: أردت لأقتلك. فأجابها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن قال: ( ما كان الله ليسلطك على ذلك ) فلم يضر ذلك السم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طول حياته غير ما أثر بلهواته وغير ما كان يعاوده منه في أوقات، فلما حضر وقت وفاته أحدث الله تعالى ضرر ذلك [ ص: 576 ] السم في النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوفي بسببه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه: (لم تزل أكلة خيبر تعاودني، فالآن أوان قطعت أبهري) فجمع الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بين النبوة والشهادة مبالغة في الترفيع والكرامة.

وأما بشر بن البراء : فروي أنه مات من حينه. وقيل: بل لزمه وجعه ذلك، ثم توفي منه بعد سنة.

ففي هذا الحديث فوائد كثيرة; أهمها: ما أظهر الله تعالى من كرامات النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كلمه الجماد، ولم يؤثر فيه السم ، وعلم ما غيب عنه من السم. وفيه ما نبه عليه في الترجمة: من أن السموم لا تؤثر بذواتها، بل بإذن الله تعالى ومشيئته، ألا ترى أن السم أثر في بشر ولم يؤثر في النبي - صلى الله عليه وسلم - فلو كان يؤثر بذاته لأثر فيهما في الحال؟!.

و(قوله: ألا تقتلها! قال: لا ) هذه رواية أنس : أنه لم يقتلها. وقد وافقه على ذلك أبو هريرة فيما رواه عنه ابن وهب . وقد روى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه قتلها. وفي رواية ابن عباس : أنه صلى الله عليه وسلم دفعها إلى أولياء بشر فقتلوها. ويصح الجمع بأن يقال: إنه لم يقتلها أولا بما فعلت من تقديم السم إليهم، بل حتى مات بشر ، فدفعها إليهم فقتلوها.

ففيه من الفقه: أن القتل بالسم كالقتل بالسلاح الذي يوجب القصاص . وهو قول مالك إذا استكرهه على شربه فيقتل بمثل ذلك. وقال الكوفيون: لا قصاص في ذلك، وفيه الدية على عاقلته. قالوا: ولو دسه له في طعام أو شراب لم يكن عليه شيء ولا على عاقلته. وقال الشافعي : إذا فعل ذلك به وهو مكره ففيه قولان:

[ ص: 577 ] أحدهما: عليه القود، وهو أشبهها.

والثاني: لا قود عليه.

وإن وضعه له، فأخبره، فأخذه الرجل، فأكله، فلا عقل، ولا قود، ولا كفارة.

و(قوله: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: أعرف أثرها، فإما بتغير لون اللهوات، وإما بنتوء، أو تحفير فيها. واللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك. قاله الأصمعي . وقيل: ما بين منقطع اللسان إلى منقطع أصل الفم من أعلاه.

التالي السابق


الخدمات العلمية