المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4100 [ 2151 ] وعن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحمى من فور جهنم، فابردوها عنكم بالماء.

رواه البخاري (3262) ومسلم (2212) (83 و 84) والترمذي (2084).
[ ص: 599 ] (11) ومن باب الحمى من فيح جهنم

" فيح جهنم " شدة حرارتها، وأصله من فاحت القدر إذا غلت، وقد يعبر عنه بالفور كما جاء في الرواية الأخرى: ولفح النار إصابة شدة حرها. وجهنم: اسم علم من أسماء نار الآخرة - مؤنث، ولذلك لم ينصرف، وقد تقدم اشتقاقه.

وقوله: " فابردوها بالماء " صوابه بوصل الألف; لأنه من قولهم برد الماء حرارة جوفي، وهو ثلاثي معدى، كما قال:


وعطل قلوصي في الركاب فإنها ستبرد أكبادا وتبكي بواكيا



وقد أخطأ من قال أبردوها بقطع الألف، وفي الرواية الأخرى "فأطفئوها" بالهمزة رباعيا، من أطفأ، وقد اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث فقال: استعمال المحموم الاغتسال بالماء خطر مقرب من الهلاك; لأنه يجمع المسام ويحقن البخار ويعكس الحرارة لداخل الجسم، فيكون ذلك سببا للتلف!

وجوابه: إن هذا إن صدر عمن ارتاب في صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فجوابه بالمعجزات الدالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - التي تدل قطعا على صحة قوله وصواب فعله، فإن حصل له التصديق والإيمان وإلا فقد يفعل الله بالسيف والسنان ما لا يفعل [ ص: 600 ] بالبرهان، وإن صدر عن مصدق له ومؤمن برسالته - وما أقله فيمن يتعاطى صنعة الأطباء - قيل له: تفهم مراده من هذا الكلام; فإنه لم ينص على كيفية تبريد الحمى بالماء، وإنما أرشد إلى تبريدها بالماء مطلقا، فإن أظهر الوجود أو صناعة الطب أن غمس المحموم في الماء أو صبه على جميع بدنه يضره فليس هو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قصد استعمال الماء على وجه ينفع، فيبحث عن ذلك الوجه وتجرب الوجوه التي لا ضرر فيها، فإنه سيظهر نفعه قطعا، وقد ظهر هذا المعنى في أمره للعائن بالغسل، فإنه وإن كان قد أمره بأن يغتسل مطلقا فلم يكن مقصوده أن يغسل جميع جسده، بل بعض ذلك كما تقدم.

وإذا تقرر هذا فلا يبعد أن يكون مقصوده أن يرش بعض جسد المحموم أو يفعل كما كانت أسماء تفعل، فإنها كانت تأخذ ماء يسيرا ترش به في جيب المحموم، أو ينضح به وجهه ويداه ورجلاه، ويذكر اسم الله تعالى، فيكون ذلك من باب النشرة الجائزة كما تقدم.

وقد يجوز أن يكون ذلك من باب الطب، فقد ينفع ذلك في بعض [ ص: 601 ] الحميات، فإن الأطباء قد سلموا أن الحمى الصفراوية يدبر صاحبها بسقي الماء الشديد البرودة حتى يسقوه الثلج، وتغسل أطرافه بالماء البارد. وعلى هذا فلا بعد في أن يكون هذا المقصود بالحديث، والله أعلم.

ولئن سلمنا أنه أراد جميع جسد المحموم فجوابه أنه يحتمل أن يريد بذلك استعماله بعد أن تقلع الحمى وتسكن حرارتها، ويكون ذلك في وقت مخصوص وبعدد مخصوص، فيكون ذلك من باب الخواص التي قد اطلع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، كما قد روى قاسم بن ثابت أن رجلا شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحمى فقال له: "اغتسل ثلاثا قبل طلوع الشمس، وقل: باسم الله، اذهبي يا أم ملدم! فإن لم تذهب فاغتسل سبعا".

التالي السابق


الخدمات العلمية