المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4217 [ 2186 ] وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت أيضا فيها بقرا والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بعد، وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر".

رواه مسلم (2272) (20)، وابن ماجه (3921).
[ ص: 35 ] و (قوله صلى الله عليه وسلم: " أريت في المنام أني أهاجر إلى أرض بها نخل ") هذا يدل على أن هذه الرؤيا وقعت له وهو بمكة قبل الهجرة، وأن الله تعالى أطلعه بها على ما يكون من حاله وحال أصحابه يوم أحد، وبأنهم يصاب من صدورهم معه، وأن الله تعالى يثبتهم بعد ذلك، ويجمع كلمتهم، ويقيم أمرهم، ويعز دينهم، وقد كمل الله تعالى له ذلك بعد بدر الثانية. وهي المرادة في هذا الحديث على ما يأتي بيانه إن شاء الله.

و (قوله: " فذهب وهلي إلى أنها اليمامة ، أو هجر ، فإذا هي المدينة ") أي: ذهب وهمي وظني. والوهل - بفتح الهاء -: ما يقع في خاطر الإنسان، ويهم به. وقد يكون في موضع آخر: الغلط، وليس مرادا هنا بوجه؛ لأنه لم يجزم بأنها واحدة منهما، وإنما جوز ذلك، إذ ليس في المنام ما يدل على التعيين، وإنما أري أرضا ذات نخل، فخطر له ذانك الموضعان، لكونهما من أكثر البلاد نخلا، ثم إنه لما هاجر إلى المدينة تعينت له تلك الأرض، فأخبر عنها بعد هجرته إليها بقوله: " فإذا هي المدينة ".

ففيه ما يدل: على أن الرؤيا قد تقع موافقة لظاهرها من غير تأويل. وأن الرؤيا قبل وقوعها لا يقطع الإنسان بتأويلها، وإنما هي: ظن وحدس، إلا فيما كان [ ص: 36 ] منها وحيا للأنبياء، كما وقع لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله لابنه: إني أرى في المنام أني أذبحك [الصافات: 102] فإن ذلك لا يكون إلا عن يقين يحصل لهم قطعا، خلافا لمن قال من أهل البدع: إن ذلك كان منه ظنا وحسبانا. وهو قول باطل؛ لأنه لم يكن ليقدم على معصوم الدم - قطعا - محبوب شرعا وطبعا بمنام لا أصل له ولا تحقيق فيه.

و (قوله: " ورأيت في رؤياي هذه: أني هززت سيفا فانقطع صدره ")، هذا نص في أن رؤيته لدار هجرته، ولهذه الحالة الدالة على قضية يوم أحد كانت مناما واحدا، وقد تأول صلى الله عليه وسلم السيف هنا بالقوم الذين كانوا معه، الناصرين له أخذا من معنى السيف لأنه به ينتصر، ويعتضد في اللقاء، كما يعتضد بالأنصار والأولياء. وقد يتأول على وجوه متعددة في غير هذا الموضع، فقد يدل على الولد، والوالد، والعم، والعصبة، والزوجة، والسلطان، والحجة القاطعة، وذلك بحسب ما يظهر من أحوال الرائي والمرئي، ووقت الرؤيا. وإنما تأول انقطاع صدر السيف [بقتل من قتل يوم أحد؛ لأنهم كانوا معظم صدر عسكره، إذ كان فيهم: عمه حمزة، وغيره من أشراف المهاجرين والأنصار ، فاقتبس صدر القوم من صدر السيف] والقطع الذي رئي فيه قطع أعمار المقتولين. وهزه للسيف: هو حمله إياهم على الجهاد، وحثهم عليه. والرواية الصحيحة الفصيحة هي: " هززته " بزايين، وتاء مثناة من فوق. وقد قاله بعض الرواة بزاي واحدة مشددة، وتاء مخففة، فيقول: " هزته "، وقيل: هي لغة بكر بن وائل .

[ ص: 37 ] و (قوله: " ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح، واجتماع المؤمنين ") يعني به - والله أعلم - ما صنع الله لهم بعد أحد، وذلك: أنهم لم ينكلوا عن الجهاد، ولا ضعفوا، ولا استكانوا لما أصابهم يوم أحد، لكن جددوا نياتهم، وقووا إيمانهم وعزماتهم، واجتمعت على ذلك جماعاتهم، وصحت في ذلك رغباتهم، فخرجوا على ما بهم من الضعف والجراح فغزوا غزوة حمراء الأسد مستظهرين على عدوهم بالقوة والجلد، ثم فتح الله تعالى عليهم، ونصرهم في غزوة بني النضير، ثم في غزوة ذات الرقاع، ثم لم يزل الله تعالى يجمع المؤمنين، ويكثرهم، ويفتح عليهم إلى بدر الثانية، وكانت في شعبان من السنة الرابعة من الهجرة، وبعد تسعة أشهر ونصف شهر من أحد، فما فتح الله عليه به في هذه المدة هو المراد هنا كما يأتي.

و (قوله: " ورأيت فيها أيضا بقرا، والله خير ") الضمير في " فيها " عائد على الرؤيا المذكورة. والرواية المشهورة برفع " الله - و - خير " على الابتداء والخبر، أي: ثواب الله خير للنفر المقتولين بالشهادة، ولمن أصيب بهم بأجر المصيبة، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ورأيت والله بقرا تنحر. على إعمال " رأيت " في " بقرا ") وعلى خفض اسم الله تعالى على القسم. وهكذا روى الخبر ابن هشام . وسمي ذلك خيرا على جهة التفاؤل.

قلت: والأول أوضح، وأبعد من الاعتراض.

و (قوله: " فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد ") يحتمل أن يكون أخذ النفر من لفظ: بقر - مصحفا - إذ لفظهما واحد، وليس بينهما إلا اختلاف النقط، فيكون هذا تنبيها على طريق خامس في طريق العبارة المتقدمة. ويحتمل أن يكون [ ص: 38 ] أخذ ذلك من أن الرجال المقاتلة في الحرب يشبهون لما معها من أسلحتها التي هي قرونها، ولمدافعتها بها، ومناطحتها بعضها لبعض بها، وقد كانت العرب تستعمل القرون في الرماح عند عدم الأسنة. والله تعالى أعلم، وكأن هؤلاء المؤمنين الذين عبر عنهم بالنفر غير المؤمنين بصدر السيف. فكأن أولئك صدر الكتيبة، وهؤلاء مقاتلتها، والكل من خير الشهداء، وأفضل الفضلاء.

و (قوله: " فإذا هو ما جاء الله به من الخير بعد ") هكذا صحت الرواية بضم " بعد " على قطعه عن الإضافة. ويعني به ما أصيبوا به يوم أحد. والعامل فيه " جاء " و " الخير ": هو الذي ذكرناه آنفا.

و (قوله: " وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر ") كذا صحت الرواية: " بعد " منصوبا على الظرف المعرب المضاف إلى " يوم بدر "، [والعامل فيه: " آتانا ". فهذان أمران مختلفان أوتيهما في وقتين مختلفين. أحدهما: بعد أحد، والثاني: بعد بدر]، مع أنهما مرتبان على ما جرى في أحد، فيستحيل أن يكون يوم بدر هنا هو يوم غزوة بدر الكبرى، لتقدم بدر الكبرى على أحد بزمان طويل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر الأولى في شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة. وكانت أحد في السنة الثالثة في النصف من شوالها، ولذلك قال علماؤنا: إن يوم بدر في هذا الحديث هو يوم بدر الثاني، وكان من أمرها: أن قريشا لما أصابت في أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما أصابت، وأخذوا في الرجوع نادى أبو سفيان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 39 ] فقال: موعدكم يوم بدر في العام المقبل. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يجيبه بنعم، فلما كان العام المقبل - وهي السنة الرابعة من الهجرة -، خرج في شعبانها إلى بدر الثانية، فوصل إلى بدر، وأقام هناك ينتظر أبا سفيان ، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى بلغ عسفان . ثم: إنهم غلبهم الخوف، فرجعوا، واعتذروا بأن العام عام جدب. وكان عذرا محتاجا إلى عذر، فأخزى الله المشركين، ونصر المؤمنين. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل منصورا، وبما يفتح الله عليه مسرورا، إلى أن أظهر الله تعالى دينه على الأديان، وأخمد كلمة الكفر والطغيان.

التالي السابق


الخدمات العلمية