المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5329 (4) باب ذكر بعض كرامات رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال هجرته وفي غيرها

[ 2200 ] عن البراء بن عازب قال: جاء أبو بكر إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا، فقال لعازب: ابعث معي ابنك يحمله معي إلى منزلي. فقال لي أبي: احمله. فحملته، وخرج أبي معه ينتقد ثمنه، فقال له أبي: يا أبا بكر، حدثني كيف صنعتم ليلة سريت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، أسرينا ليلتنا كلها، حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد، حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، لم تأت عليه الشمس بعد، فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها، ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: يا رسول الله، نم وأنا أنفض لك ما حولك. فنام وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براعي غنم مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فلقيته فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة. قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت: أفتحلب لي؟ قال: نعم. فأخذ شاة فقلت له: انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى. قال: فرأيت البراء يضرب بيده على الأخرى ينفض، فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن. قال: ومعي إداوة أرتوي فيها للنبي صلى الله عليه وسلم ليشرب منها ويتوضأ. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكرهت أن أوقظه من نومه، فوافقته استيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت: يا رسول الله، اشرب من هذا اللبن. قال: فشرب حتى رضيت، ثم قال: "ألم يأن للرحيل؟ ". قلت: بلى. قال: فارتحلنا بعدما زالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك. قال: ونحن في جلد من الأرض. فقلت: يا رسول الله، أتينا. فقال: "لا تحزن، إن الله معنا". فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتطمت فرسه إلى بطنها. أرى فقال: إني علمت أنكما قد دعوتما علي فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب. فدعا الله فنجا، فرجع لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتكم ما هاهنا، فلا يلقى أحدا إلا رده. قال: ووفى لنا.

وفي رواية: فلما دنا دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساخ فرسه في الأرض إلى بطنه، ووثب عنه وقال: يا محمد، قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن يخلصني مما أنا فيه، ولك علي لأعمين على من ورائي، وهذه كنانتي فخذ سهما منها، فإنك ستمر على إبلي وغلماني بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك. قال: لا حاجة لي في إبلك. فقدمنا المدينة ليلا، فتنازعوا أيهم ينزل عليه، فقال: أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك، فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: يا محمد! يا رسول الله! يا محمد! يا رسول الله!.

رواه أحمد ( 3 \ 2 -3)، والبخاري (2439)، ومسلم (2009).
(4) ومن باب ذكر بعض كرامات النبي صلى الله عليه وسلم

الرحل للبعير: كالسرج للفرس، والإكاف للحمار. و " سرى " و " أسرى " لغتان، وقد جمع بينهما في هذا الحديث، وهو: سير الليل.

و (قوله: " أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة ") أي: اتصل سيرهم من الليل إلى أن قاربوا نصف النهار. و " قائم الظهيرة ": هو وهج حرها وشدته.

و (قوله: " رفعت لنا صخرة طويلة ") أي: رفعها السراب فرأوها.

[ ص: 65 ] و (قوله: " وأنا أنفض لك ما حولك ") أي: أنظر وأبحث فيما حولنا هل فيه ما يكره؟ يقال: إذا تكلمت بالليل فاخفض، وإذا تكلمت بالنهار فانفض، أي: التفت إلى ما حولك.

و (قوله للراعي: " لمن أنت؟ " فقال: " لرجل من أهل المدينة ") يعني بالمدينة هنا: مكة ، لوجهين:

أحدهما: أنه إنما كانت هذه القصة في سفر هجرتهم، وإن هذا إنما كان في مبدأ سفرهم. ألا ترى قوله: " أسرينا ليلتنا إلى أن قام قائم الظهيرة ؟ ! فكأنهم إنما لقوا هذا الراعي بعد ليلة ونصف يوم من خروجهم من الغار. وذكر حديث سراقة في نفس هذا الحديث. يدل على أنه كان قريبا من مكة .

وثانيهما: أنه قد روي من طريق أخرى عن البراء أنه قال للراعي: لمن أنت؟ قال: لرجل من أهل مكة ، وسماها مدينة ؛ لأن كل بلد يسمى مدينة، ومنه قوله تعالى: وكان في المدينة تسعة رهط [النمل: 48] ولم يرد به دار الهجرة بالاتفاق، وإنما سمي البلد مدينة؛ لأن أهله يدينون لمتوليه، أي: يطيعون. وقيل: من الدين، وهو الملك.

و " الكثبة " من اللبن وغيره: القليل المجتمع منه. و " ارتوى ": افتعل من " الري " أي: أعد فيها من الشراب ما يروي. و " القعب ": وعاء من خشب. و " الإداوة " من جلد.

[ ص: 66 ] و (قوله: " وكرهت أن أوقظه ") إنما كره ذلك؛ لأن نومه ذلك كان راحة من تعب، ولأنهم كانوا يتوقعون أنه يوحى إليه في نومه، فإيقاظه يخاف أن يكون قطعا للوحي.

و (قوله: " فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله ") يعني: أنه صب على إناء اللبن من الماء ليبرد اللبن، فإنه يخرج من الضرع حارا، وكان الوقت شديد الحر. وعلى هذا فالمراد بأسفله: أسفل الإناء. ويحتمل أن يكون المراد به: أنه صب الماء في اللبن ومزجه به. وخص أسفل اللبن لأنه إذا برد أسفله برد أعلاه.

وشرب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك اللبن مع علمه بأن الراعي ليس بمالك - إذ قد صرح الراعي بذلك - مشكل، إذ الورع يقتضي التوقف، وقد اختلف فيه على أوجه:

أحدها: أنه علم عين المالك، وأنه كان ممن تطيب نفسه بذلك، وقد دل على ذلك: أن أحمد بن حنبل روى هذا الحديث في " مسنده "، فقال فيه: فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من قريش ، فسماه، فعرفته.

وثانيها: أن ذلك محمول على ما جرت به عوائد العرب في إباحة ذلك القدر في مثل تلك الحال.

وثالثها: أن من احتاج في سفره، ومر على غنم أو ثمر - وقد جاع أو عطش - [ ص: 67 ] فله أن يسد جوعته، ويروي عطشه منها، وإن لم يأذن المالك، وإن لم ينته الحال إلى الضرورة. وإليه ذهب الحسن ، والزهري . والجمهور: على أن ذلك إنما يجوز لمن اضطر إلى ذلك.

ورابعها: أن ذلك مال كافر ليس له عهد، فيحل لمن ظفر به.

قلت: وفي هذا بعد؛ [لأن تحليل الغنائم لم يكن شرع بعد] وأشبهها القول الأول والثاني.

و (قوله: " ألم يأن للرحيل ") أي: قد حان وقته.

و " الجلد من الأرض ": الموضع الصلب الغليظ منها.

و (قول أبي بكر رضي الله عنه: ( أتينا ) أي: وصل إلينا، وأحيط بنا. ومنه قوله تعالى: أتاها أمرنا ليلا أو نهارا [يونس: 24] وهذا من أبي بكر رضي الله عنه] التفات إلى الأسباب العادية، ومقتضى الجبلة البشرية.

و (قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تحزن إن الله معنا [التوبة: 40] ") أي: بالحفظ والنصرة. وهذا منه صلى الله عليه وسلم ثقة بالوعد الصادق، وتفويض إلى الواحد الخالق.

و (قوله: " ارتطمت فرسه إلى بطنها ") أي: غاصت قوائمها حتى وصل بطنها إلى الأرض. يقال: ارتطم الرجل في الوحل: إذا ثبت فيه.

[ ص: 68 ] و (قوله: " أرى " بضم الهمزة، أي: أظن أنها وصل بطنها إلى الأرض.

و (قول سراقة : " قد علمت أنكما دعوتما علي، فادعوا لي ") يدل على ما كان في نفوسهم من تعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، وإن كانوا مخالفين لهم.

و (قوله: " فالله لكما أن أرد عنكما الطلب ") الرواية الصحيحة: نصب " الله " ولا يجوز غير ذلك؛ لأنه قسم حذف حرف جره، فتعدى الفعل المنوي فنصب، فكأنه قال: فأقسم بالله لكما علي أن أعمي خبركما، وأرد عنكما من يطلبكما.

و (قوله: " فدعا الله فنجا ") هذه من بعض دعوات النبي صلى الله عليه وسلم المعجلة الإجابة، وهي من الكثرة بحيث تفوق الحصر، ويحصل بمجموعها القطع بأن الله تعالى قد أكرم محمدا صلى الله عليه وسلم بإجابة دعواته، وأسعفه في كثير من طلباته، وكل ذلك يدل على مكانته، وصدق رسالته.

و (قوله: " فقدمنا المدينة ليلا ") يعني: أنهم وصلوا إليها ليلا، إلا أنهم أقاموا خارجا منها، ثم دخلوها نهارا، وهذا مبين في حديث عائشة رضي الله عنها.

[ ص: 69 ] وقد أطبق أهل السير على: أنه دخل المدينة يوم الإثنين، [وأكثرهم يقول]: لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ضحى ذلك اليوم، وقيل: عند استواء الشمس منه.

و (قوله: " أنزل على أخوال عبد المطلب ") إنما كانت الأنصار أخوال عبد المطلب ؛ لأن أباه هاشما تزوج سلمى ابنة زيد بن خداش من بني النجار ، فولدت له عبد المطلب ، فبنو النجار أخوال جد النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك أكرمهم الله تعالى بنزول نبيه عليهم. وقد صح في كتب السير وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في قباء ، فأقام فيهم أياما، وأسس مسجدها، ثم خرج منها راكبا ناقته متوجها حيث أمره الله تعالى، فأدركته الجمعة في بني سالم ، فصلاها في بطن الوادي، ثم إنه توجه إلى دخول المدينة ، فتعرضت له سادات قبائلها، كلهم يعرض عليه النزول، ويأخذ بخطام ناقته وهو يقول: " دعوها، فإنها مأمورة " فلم تزل ناقته كذلك حتى وصلت إلى دار أبي أيوب فبركت عنده، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب رضي الله عنه، وهذا هو الذي عبر عنه في هذا الحديث بقوله: فتنازعوا أيهم ينزل عليه ، أي: تجاذبوا ذلك، وحرصوا عليه.

و (قوله: " فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، والغلمان والخدم في الطرق ") [ ص: 70 ] هذا عطف على المعنى نحو قوله:


يا ليت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا

و:


....................     علفتها تبنا وماء باردا
...............

لأن الطرق لا يصعد فيها، فكأنه قال: وتفرق الغلمان والخدم في الطرق، والكل ينادون: يا محمد ! يا رسول الله ! كل ذلك فرح وسرور بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حديث أبي اليسر ، واسمه: كعب بن عمرو بن عزيب من بني سلمة . شهد العقبة وبدرا، فهو عقبي، بدري، وهو الذي أسر العباس بن عبد المطلب يوم بدر، وكان رجلا قصيرا، والعباس طويل ضخم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد أعانك عليه ملك "، وهو الذي انتزع راية المشركين من يد أبي عزيز يوم بدر. شهد صفين مع علي رضي الله عنهما، يعد في أهل المدينة ، وبها توفي سنة خمس وخمسين.

التالي السابق


الخدمات العلمية