المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4245 (8) باب ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من الحوض المورود ومن أنه أعطي مفاتيح خزائن الأرض

[ 2211 ] عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورق، وريحه أطيب من المسك، كيزانه كنجوم السماء، من شرب منه فلا يظمأ بعده أبدا".

قال: وقالت أسماء بنت أبي بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ أناس دوني، فأقول: يا رب مني ومن أمتي". فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم.

قال: فكان ابن أبي مليكة يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن عن ديننا.


رواه البخاري (6579)، ومسلم (2292 و 2293).
[ ص: 90 ] (8 و 9) ومن باب أحاديث حوض النبي صلى الله عليه وسلم وأوانيه

قد تقدم القول على كثير من معاني أحاديث هذا الباب في كتاب الطهارة. ومما يجب على كل مكلف أن يعلمه، ويصدق به: أن الله تعالى قد خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالكوثر الذي هو الحوض المصرح باسمه، وصفته، وشرابه وآنيته في الأحاديث الكثيرة الصحيحة الشهيرة، التي يحصل بمجموعها العلم القطعي، واليقين التواتري، إذ قد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة نيف على الثلاثين. في الصحيحين منهم نيف على العشرين، وباقيهم في غيرهما، مما صح نقله، واشتهرت روايته، ثم قد رواها عن الصحابة من التابعين أمثالهم، ثم لم تزل تلك الأحاديث مع توالي الأعصار، وكثرة الرواة لها في جميع الأقطار، تتوفر همم الناقلين لها على روايتها وتخليدها في الأمهات، وتدوينها، إلى أن انتهى ذلك إلينا، وقامت به حجة الله علينا، فلزمنا الإيمان بذلك، والتصديق به، كما أجمع عليه السلف، وأهل السنة من الخلف، وقد أنكرته طائفة من المبتدعة، وأحالوه عن ظاهره، وغلوا في تأويله من غير إحالة عقلية، ولا عادية، تلزم من إقراره على ظاهره، ولا منازعة سمعية، ولا نقلية تدعو إلى تأويله، فتأويله تحريف صدر عن عقل سخيف خرق به إجماع السلف، وفارق به مذهب أئمة الخلف.

والحوض : [ ص: 91 ] مجتمع الماء. يقال: استحوض الماء، إذا اجتمع. ويجمع: أحواضا وحياضا.

و (قوله: " من شرب منه لم يظمأ أبدا ") أي: لم يعطش آخر ما عليه. وظاهر هذا وغيره من الأحاديث: أن الورود على هذا الحوض، والشرب منه، إنما يكون بعد النجاة من النار، وأهوال القيامة؛ لأن الوصول إلى ذلك المحل الشريف، والشرب منه، والوصول إلى موضع يكون فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمنع عنه، من أعظم الإكرام، وأجل الإنعام، ومن انتهى إلى مثل هذا كيف يعاد إلى حساب، أو يذوق بعد ذلك تنكيل خزي وعذاب؟ ! فالقول بذلك أوهى من السراب.

و (قوله صلى الله عليه وسلم: " حوضي مسيرة شهر، زواياه سواء ") أي: أركانه معتدلة، يعني: [ ص: 92 ] أن ما بين الأركان متساو، فهو معتدل التربيع، وقد اختلفت الألفاظ الدالة على مقدار الحوض، كما هو مبين في الروايات المذكورة في الأصل. وقد ظن بعض القاصرين: أن ذلك اضطراب، وليس كذلك، وإنما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث الحوض مرات عديدة، وذكر فيها تلك الألفاظ المختلفة إشعارا بأن ذلك تقدير، لا تحقيق، وكلها تفيد أنه كبير متسع، متباعد الجوانب والزوايا، ولعل سبب ذكره للجهات المختلفة في تقدير الحوض: أن ذلك إنما كان بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهات، فيخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها، والله أعلم.

و (قوله: " ماؤه أبيض من الورق ") جاء أبيض - هاهنا - في هذا الحديث على الأصل المرفوض، كما قد جاء في قولهم:


..................... فأنت أبيضهم سربال طباخ

وكما قد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: " توافون سبعين أمة أنتم أخيرهم "، أي: خيرهم، وكما قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات "، وكل ذلك جاء منبهة على الأصل المرفوض، والمستعمل الفصيح؛ كما جاء في الرواية الأخرى: " أشد بياضا من الثلج "، ولا معنى لقول من قال من متعسفة النحاة: لا يجوز التلفظ بهذه الأصول المرفوضة، مع صحة هذه الروايات، وشهرة تلك الكلمات.

التالي السابق


الخدمات العلمية