المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4307 (17) باب في شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيفيته

[ 2245 ] عن ابن عباس قال: كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به، فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته، ثم فرق بعد.

رواه أحمد ( 2 \ 287 )، والبخاري (3558)، ومسلم (2336) (90)، وأبو داود (4188)، وابن ماجه (3632).
[ ص: 124 ] و (قوله: " كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم ") قال القاضي : سدل الشعر : إرساله، والمراد به هنا عند العلماء: إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة. يقال: سدل شعره وثوبه: إذا أرسله، ولم يضم جوانبه. والفرق: تفريق الشعر بعضه عن بعض. والفرق: تفريقك بين كل شيئين. قال الحربي : والمفرق: موضع الفرق، والفرق في الشعر سنة؛ لأنه الذي رجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم. والظاهر أنه بوحي، لقول أنس : " أنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء "، فسدل، ثم فرق بعد، فظاهره: أنه لأمر من الله تعالى، حتى جعله بعضهم نسخا، وعلى هذا لا يجوز السدل، ولا اتخاذ الناصية والجمة. وقد روي: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسا يجزون كل من لم يفرق شعره.

[ ص: 125 ] قلت: وفيما قاله القاضي - رحمه الله - وحكاه نظر. بل: الظاهر من مساق الحديث أن السدل إنما كان يفعله لأجل محبته استئلاف أهل الكتاب بموافقتهم، لكنه كان يوافقهم فيما لم يشرع له فيه، فلما استمروا على عنادهم، ولم ينتفعوا بالموافقة، أحب مخالفتهم أيضا فيما لم يشرع له، فصارت مخالفتهم محبوبة له لا واجبة عليه كما كانت موافقتهم.

و (قوله: " فيما لم يؤمر ") يعني: فيما لم يطلب منه، والطلب يشمل الواجب والمندوب كما قررناه في الأصول. وأما توهم النسخ في هذا، فلا يلتفت إليه لإمكان الجمع، كما قررناه، وهذا بعد تسليم أن محبة موافقتهم ومخالفتهم حكم شرعي، فإنه يحتمل أن يكون ذلك أمرا مصلحيا، هذا مع أنه لو كان السدل منسوخا بوجوب الفرق لصار الصحابة رضي الله عنهم إليه، أو بعضهم، وغاية ما روي عنهم: أنه كان منهم من فرق، ومنهم من سدل، فلم يعب السادل على الفارق، ولا الفارق على السادل، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان له لمة، فإن انفرقت فرقها، وإلا تركها . وهذا يدل على أن هذا كان غالب حاله؛ لأن ذلك ذكره مع جملة أوصافه الدائمة، وحليته التي كان موصوفا معروفا بها، فالصحيح: أن الفرق مستحب لا واجب، وهذا الذي اختاره مالك . وهو قول جل أهل العلم. والله أعلم.

و (قوله: " كان يحب موافقة أهل الكتاب ") قد قلنا: إن ذلك كان في أول أمره [ ص: 126 ] عند قدومه على المدينة في الوقت الذي كان يستقبل قبلتهم، وإن ذلك كله كانت حكمته التأنيس لأهل الكتاب حتى يصغوا إلى ما جاء به، فيتبين لهم أنه الحق، والاستئلاف لهم ليدخلوا في الدين، فلما غلبت عليهم الشقوة، ولم ينفع معهم ذلك نسخ الله تعالى استقباله قبلتهم بالتوجه نحو الكعبة ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم في غير شيء، كقوله: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم ". وذكر أبو عمر في " التمهيد " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اخضبوا وفرقوا، خالفوا اليهود ". قال: إسناده حسن، ورجاله كلهم ثقات، وكقوله في الحائض: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح ". حتى قالت اليهود : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. فاستقر آخر أمره صلى الله عليه وسلم على مخالفتهم فيما لم يحكم عليه فيه بحكم، فإذا ثبت هذا فلا حجة في قول عائشة رضي الله عنها: " كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب على أن شرعهم شرع لنا ") فتأمل ذلك. واختلاف هذه الأحاديث في كيفية شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو اختلاف أحوال، إذ قد فعل ذلك كله، فقد سدل، وفرق، وكان شعره لمة، ووفرة، وجمة.

وقد روى الترمذي من حديث أم هانئ رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وله أربع غدائر . قال: هذا حديث حسن صحيح.

[ ص: 127 ] قلت: والغدائر: الضفائر. قال امرؤ القيس:


غدائره مستشزرات إلى العلا تضل المدارى في مثنى ومرسل

التالي السابق


الخدمات العلمية