المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4316 [ 2254 ] وعن أبي الطفيل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على الأرض رجل رآه غيري، قال: فقلت: فكيف رأيته؟ قال: كان أبيض مليحا مقصدا.

قال مسلم: مات أبو الطفيل سنة مائة، وهو آخر من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رواه أحمد ( 5 \ 454 )، ومسلم (2340) (98 و 99).
و (قوله: " كان أبيض مليحا مقصدا ") أبيض: يعني في صفاء، كما جاء أنه كان أزهر، وكما قال: " ليس بالأبيض الأمهق ". والملاحة: أصلها في العينين كما تقدم. والمقصد: القصد في جسمه وطوله، يعني: أنه لم يكن ضئيل الجسم، ولا ضخمه، ولا طويلا ذاهبا، ولا قصيرا مترددا، كان وسطا فيهما.

و (قوله: " كان شعره رجلا ") أي: ليس بالجعد، ولا بالسبط. الرواية في رجلا، بفتح الراء وكسر الجيم، وهي المشهورة. وقال الأصمعي : يقال: شعر رجل: بفتح الراء وكسر الجيم، ورجل: بفتح الجيم، ورجل: بسكونها، ثلاث لغات، إذ كان بين السبوطة، والجعودة، قال غيره: شعر مرجل، أي: مسرح. وكان شعره صلى الله عليه وسلم بأصل خلقته مسرحا.

[ ص: 131 ] و ( قول أنس رضي الله عنه وقد سئل عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم ير من الشيب إلا قليلا ". وفي الرواية الأخرى: " لو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه فعلت " ظاهره: أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم يختضب، كما قد نص عليه في بقية الحديث. وبهذا الظاهر أخذ مالك فقال: لم يختضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه ذهب أبو عمر بن عبد البر ، وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أنه خضب، متمسكين في ذلك بما رواه أبو داود عن أبي رمثة ، قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ذو وفرة، وبها ردع من حناء، وعليه بردان أخضران. وروى أبو داود أيضا عن زيد بن أسلم : أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتلئ ثيابه من الصفرة. فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، ولم يكن شيء أحب إليه منها، وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها حتى عمامته. ويعتضد هذا بأمره صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب، كما قال: " غيروا هذا الشيب واجتنبوا السواد "، وقال: " غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ". وما كان صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء إلا كان أول آخذ به. ومما يعتضد به لذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن موهب ، قال: دخلت على أم سلمة ، فأخرجت لي شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضوبا. زاد ابن أبي شيبة : [ ص: 132 ] بالحناء والكتم. والإسناد واحد. ومما يعتضد به هؤلاء خضاب الخليفتين رضي الله عنهما، فلو علما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يختضب لما اختضبا، فإنهما ما كانا باللذين يعدلان عن سنته، ولا عن اتباعه، والفصل لهؤلاء من أحاديث أنس ، وما في معناها بأن الخضاب لم يكن منه صلى الله عليه وسلم دائما، ولا في كل حال، وإنما كان في بعض الأوقات، فلم يلتفت أنس لهذه الأوقات القليلة، وأطلق القول، وأولى من هذا أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم لما لم يكن شيبه كثيرا، وإنما كان في لحيته وصدغيه نحو العشرين شعرة بيضا، لم يكن الخضاب يظهر فيها غالبا، والله تعالى أعلم.

وقد اعتذر أصحاب القول الأول عن حديث أبي رمثة وابن عمر بأن ذلك لم يكن خضابا بالحناء، وإنما كان تغييرا بالطيب، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: كان يصبغ بالصفرة، ولم يقل: بالحناء، وهذه الصفرة هي التي قال عنها أبو رمثة : ردع من حناء؛ لأنه شبهها بها، وأما حديث أم سلمة فيحتمل أن يكون ذلك فعل بشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بطيب أو غيره احتراما وإكراما. والله أعلم.

والشمطات: جمع شمطة، ويعني بها: الشعرات البيض المخالطة للشعر الأسود. قال الأصمعي : إذا رأى الرجل البياض، فهو أشمط. وقد شمط. والكتم - بالتحريك -: نبت يخلط بالوسمة، يختضب به. قاله في الصحاح. والبحت - بالموحدة والحاء المهملة -: هو الخالص من الشيء، المنفرد عن غيره. وقال أبو حنيفة اللغوي : الوسمة: الحظر، والعظلم، والثبلج، والتنومة، وكله يصبغ به. والحناء ممدودة. قال أبو علي : جمع حناءة. والكتم - مخفف التاء -: هو المعروف. وأبو عبيد يقولها بالتشديد. ونبذ: الرواية فيه بفتح النون وسكون الباء، أي: شيء قليل متبدد. وبعض الناس يقوله: نبذ - بضم النون وفتح الباء -: جمع نبذة، كغرفة وغرف، وظلمة وظلم. وهذا لا يستقيم هنا؛ لأنه كان يلزم منه أن [ ص: 133 ] يكون سببه نبذا مجتمعة في أنفسها، متفرقة في مواضع عديدة، ويلزم عليه أن يكون سببه كثيرا، فيكون هذا مخالفا لما قاله أنس في الأحاديث الأخر.

وكراهته صلى الله عليه وسلم نتف الشيب إنما كان لأنه وقار، كما قد روى مالك : " أن أول من رأى الشيب إبراهيم عليه السلام، فقال: يا رب ! ما هذا؟ فقال: وقار. قال: يا رب زدني وقارا " أو لأنه نور يوم القيامة، كما روى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تنتفوا الشيب ! ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة ". وفي أخرى: " إلا كتب الله له حسنة، وحط عنه خطيئة ".

و ( قول أنس رضي الله عنه: " ما شانه الله ببيضاء ") أي: لم يكن شيبه كثيرا بينا حتى تزول عنه بهجة الشباب، ورونقه، ويلحق بالشيوخ، الذين يكون الشيب لهم عيبا، فإنه يدل على ضعفهم، ومفارقة قوة الشباب ونشاطه. ويحتمل أن يريد: أن ما ظهر عليه من الشيب اليسير زاده ذلك في عين الناظر إليه أبهة، وتوقيرا، وتعظيما.

و " الشين ": العيب. و " أبري النبل ": أنحته، و " أريشه ": أجعل فيها الريش، ويعني: أنه قد كان كبر، وقوي، وعرف. وهذا حال المراهق.

التالي السابق


الخدمات العلمية