المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4376 (34) باب

في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخيروا بين الأنبياء

[ 2291 ] عن أبي هريرة قال: بينما يهودي يعرض سلعة له أعطي بها شيئا، كرهه - أو لم يرضه - قال: لا والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر. قال: فسمعه رجل من الأنصار فلطم وجهه، قال: تقول والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ ! قال: فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم ! إن لي ذمة وعهدا، وقال: فلان لطم وجهي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم لطمت وجهه؟ ". قال: قال يا رسول الله: والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر، وأنت بين أظهرنا ! قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه، ثم قال: " لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، قال: ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من يبعث - أو: في أول من يبعث - وفي رواية: أول من يفيق من غير شك - فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أو بعث قبلي، ولا أقول: إن أحدا أفضل من يونس بن متى عليه السلام".

وفي رواية: "فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله عز وجل".


رواه البخاري (3414)، ومسلم (2373) (159 و 160)، وأبو داود (4671)، والترمذي (3245).
(34) ومن باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تخيروا بين الأنبياء ".

أي: لا تقولوا فلان خير من فلان، وفي الرواية الأخرى: " لا تفضلوا " أي: لا تقولوا: فلان أفضل من فلان. يقال: خير فلان بين فلان وفلان. وفضل - مشددا -: إذا قال ذلك. واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث على أقوال، فمنهم من قال: إن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، ويتضمن هذا الكلام: أن [ ص: 229 ] الحديث معارض لقوله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [البقرة: 253] ولما في معنى ذلك من الأحاديث، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وهذا لا يصح حتى تتحقق المعارضة حيث لا يمكن الجمع بوجه، وحتى يعرف التاريخ، وكل ذلك غير صحيح على ما يأتي، فليس هذا القول بصحيح، ومنهم من قال: إنما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التواضع، والأدب مع الأنبياء، وهذا فيه بعد؛ لأن السبب الذي خرج عليه هذا النهي يقتضي خلاف ذلك، فإنه إنما قال ذلك ردعا وزجرا للذي فضل. ألا ترى أنه قد غضب عليه حتى احمر وجهه، ونهى عن ذلك، فدل على أن التفضيل يحرم. ولو كان من باب الأدب والتواضع لما صدر منه ذلك. ومنهم من قال: إنما نهى عن الخوض في ذلك؛ لأن ذلك ذريعة إلى الجدال في ذلك، فيؤدي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر، ويقل احترامهم عند المماراة، وهذا كما نهي عنه من الجدال في القرآن والمماراة. ومنهم من قال: مقتضى هذا النهي: إنما هو المنع من تفضيل معين من الأنبياء على معين، أو على ما يقصد به معين، وإن كان اللفظ عاما؛ لأن ذلك قد يفهم منه نقص في المفضول كما بيناه، فيما تقدم.

قلت: ويدل على ذلك: أنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث في " الأم ": " لا تفضلوني على موسى "، وبدليل قوله: " لا أقول إن أحدا أفضل من يونس بن متى " فإن قيل: فالحديث يدل على خلاف هذا، فإن اليهودي فضل موسى على البشر. والمسلم قال: والذي اصطفى محمدا على البشر. وعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تفضلوا بين الأنبياء، ولا تخيروا بين الأنبياء " فاقتضى ذلك المنع من التفضيل مطلقا معينا وغير معين، فالجواب: أن مراد اليهودي كان إذ ذاك أن [ ص: 230 ] يصرح بأن موسى أفضل من محمد ، لكنه لم يقدر على ذلك خوفا على نفسه، ألا ترى أن المسلم فهم ذلك عنه، فأجابه بما يقتضي أن محمدا أفضل من موسى ، غير أنه قابل لفظ اليهودي بمثله، وقد بين ذلك غاية البيان قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تفضلوني على موسى " فنهاهم عن ذلك، ثم إنا قد وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم قال: " أنا أكرم ولد آدم على ربي "، و " أنا سيد ولد آدم "، ولم يذهب أحد من العلماء إلى أن هذا منسوخ، ولا مرجوح.

قلت: وهذا الوجه وإن كان حسنا، فأولى منه أن يحمل الحديث على ظاهره من منع إطلاق لفظ التفضيل بين الأنبياء، فلا يجوز في المعين منهم، ولا غيرهم، ولا يقال: فلان النبي أفضل من الأنبياء كلهم، ولا من فلان، ولا خير، كما هو ظاهر هذا النهي، لما ذكر من توهم النقص في المفضول، وإن كان غير معين، ولأن النبوة خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما تفاضلوا بأمور غيرها كما بيناه قبل هذا الباب. ثم إن هذا النهي يقتضي منع إطلاق ذلك اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإن الله تعالى قد أخبرنا بأن الرسل متفاضلون كما قال تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [البقرة: 253] وكما قد علمنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد خص بخصائص من الكرامات والفضائل بما لم يخص به أحد منهم، ومع ذلك فلا نقول: نبينا خير من الأنبياء، ولا من فلان النبي اجتنابا لما نهى عنه، وتأدبا [ ص: 231 ] بأدبه، وعملا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل، ورفعا لما يتوهم من المعارضة بين السنة والتنزيل.

و (قوله: " إنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ") أصل الصعق، والصعقة: الصوت الشديد المنكر، كصوت الرعد، وصوت الحمار، وقد يكون معه موت لشدته. وهو المراد بقوله: فصعق من في السماوات ومن في الأرض [الزمر: 68] وقد تكون معه غشية، وهو المراد بقوله تعالى: وخر موسى صعقا [الأعراف: 143] فإن كان معه نار فهو الصاعقة، والعرب كلها تقدم العين على القاف إلا بني تميم ، فإنهم يقدمون القاف على العين، فيقولون: الصاقعة، حكاها القاضي عياض .

وقد اختلف في المستثنى: من هو؟ فقيل: الملائكة، وقيل: الأنبياء، وقيل: الشهداء. والصحيح: أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل، والله أعلم.

و " الصور " قيل: إنه جمع صورة، والصحيح ما قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الصور قرن ينفخ فيه ". وسيأتي له مزيد بيان. واختلف في عدد النفخات، فقيل: ثلاثة: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث. وقيل: هما نفختان: نفخة الفزع هي نفخة الصعق؛ لأن الأمرين لازمان لها. والله تعالى أعلم.

و (قوله: " ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من يبعث، أو: من أول من يبعث ") هذا شك من الراوي تزيله الرواية الأخرى التي قال فيها: " فأكون أول من يفيق "، وكذلك الحديث المتقدم الذي قال فيه: " أنا أول من ينشق عنه القبر [ ص: 232 ] ويبعث ") يعني به: يحيا بعد موته، وهو الذي عبر عنه في الرواية الأخرى ب: " أفيق ") وإن كان المعروف: أن الإفاقة إنما هي من الغشية، والبعث من الموت، لكنهما لتقارب معناهما أطلق أحدهما مكان الآخر، ويحتمل أن يراد بالبعث الإفاقة على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.

و (قوله: " فإذا موسى متعلق بساق بالعرش ") هذا من موسى تعلق فزع لهول المطلع، وكأنه متحرم بذلك المحل الشريف، ومتمسك بالفضل المنيف.

و (قوله: " فلا أدري أحوسب بصعقة الطور، أو بعث قبلي ") هذا مشكل بالمعلوم من الأحاديث الدالة على أن موسى عليه السلام، قد توفي وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآه في قبره، وبأن المعلوم المتواتر: أنه توفي بعد أن ظهر دينه، وكثرت أمته، ودفن بالأرض، ووجه الإشكال: أن نفخة الصعق إنما يموت بها من كان حيا في هذه الدار، فأما من مات فيستحيل أن يموت مرة أخرى؛ لأن الحاصل لا يستحصل، ولا يبتغى، وإنما ينفخ في الموتى نفخة البعث، وموسى قد مات، فلا يصح أن يموت مرة أخرى، ولا يصح أن يكون مستثنى ممن صعق؛ لأن المستثنيين أحياء لم يموتوا، ولا يموتون، فلا يصح استثناؤهم من الموتى، وقد [ ص: 233 ] رام بعضهم الانفصال عن هذا الإشكال، فقال: يحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا قول باطل بما ذكرناه. قال القاضي عياض : يحتمل أن المراد بهذه الصعقة: صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السماوات والأرضون، قال: فتستقل الأحاديث والآيات.

قلت: وهذه غفلة عن مساق الحديث، فإنه يدل على بطلان ما ذكر دلالة واضحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه حين يخرج من القبر فيلقى موسى ، وهو متعلق بالعرش ، وهذا كان عند نفخة البعث، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يرى موسى يقع له تردد في موسى على ظاهر هذا الحديث، هل مات عند نفخة الصعق المتقدمة على نفخة البعث، فيكون قد بعث قبله، أو لم يمت عند نفخة الصعق لأجل الصعقة التي صعقها على الطور، جعلت له تلك عوضا من هذه، وعلى هذا فكان حيا حالة نفخة الصعق، ولم يصعق، ولم يمت، وحينئذ يبقى الإشكال إذ لم يحصل عنه انفصال.

قلت: والذي يزيحه - إن شاء الله تعالى - أن يقال: إن الموت ليس بعدم، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين، فهذه صفات الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه [ ص: 234 ] قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء "، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس ، وفي السماء، وخصوصا بموسى عليه السلام. وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضي أن الله تعالى يرد عليه روحه حتى يرد السلام على كل من يسلم عليه، إلى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى، وهو كثير بحيث يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أنهم غيبوا عنا بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة فإنهم موجودون أحياء، ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله بكرامة من أوليائه، وإذا تقرر أنهم أحياء فهم فيما بين السماء والأرض، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق كل من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، فأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء، فالأظهر أنه غشية، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث ممن مات حيي، ومن غشي عليه أفاق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " فأكون أول من يفيق ") وهي رواية صحيحة وحسنة. فهذا الذي ظهر لي، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وقد تحصل من هذا الحديث: أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم محقق أنه أول من يفيق، وأول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم، الأنبياء وغيرهم، إلا موسى عليه السلام فإنه حصل له فيه تردد: هل بعث قبله، أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق، وعلى أي الحالين كان فهي فضيلة عظيمة لموسى عليه السلام ليست لغيره، والله تعالى أعلم.

[ ص: 235 ] الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

حسبنا الله تعالى ونعم الوكيل. علقه الفقير إلى الله تعالى محمد بن عيسى بن محمد بن دريك عفا الله عنهم.

نجز الجزء الثالث من المفهم بشرح كتاب مسلم، يتلوه - إن شاء الله تعالى كتاب: فضائل الصحابة، والحمد لله.

اللهم يسر لنا طريقا إلى العلم، وتوفيقا إلى الفهم، وأصلح نياتنا فيهما، إنك لما تشاء فعال، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.

التالي السابق


الخدمات العلمية