المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
المقدمة

(2) باب

وجوب الأخذ عن الثقات ، والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [ الحجرات : 6 ] الآية ، وقال : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] وقال : ممن ترضون من الشهداء [ البقرة : 282 ] .

[ 1 ] عن المغيرة بن شعبة ، وسمرة بن جندب ، قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من حدث عني بحديث يرى أنه كذب ، فهو أحد الكذابين . رواه أحمد ( 4 \ 252 ) ، ومسلم ( 1 \ 9 - المقدمة ) ، والترمذي ( 2662 ) ، وابن ماجه ( 39 ) .


[ ص: 106 ] [ ص: 107 ] (2) ومن باب : وجوب الأخذ عن الثقات والتحذير من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

الكذب لغة : هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به ، غير أن المحرم شرعا ، المستقبح عادة : هو العمد المقصود ، إلا ما استثني على ما يأتي .

ويقال : كذب ، بمعنى : أخطأ .

وأصل الكذب في الماضي والخلف في المستقبل ; قاله ابن قتيبة ; وقد جاء الكذب في المستقبل ; قال الله تعالى : ذلك وعد غير مكذوب [ هود : 65 ] .

ويقال : كذب الرجل ، بفتح العين ، يكذب ، بكسرها ، كذبا ، بكسر الكاف وسكون الذال ، وكذبا ، بفتح الكاف وكسر الذال ، فأما " كذاب " المشدد الذال ، فأحد مصادر كذب بالتشديد .

قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [ الحجرات : 6 ] . الفاسق في أصل اللغة : هو الخارج مطلقا ، والفسق والفسوق : الخروج ، ومنه قولهم : فسقت الرطبة : إذا خرجت من قشرها الأعلى ، ومنه سميت الفأرة : فويسقة ; لأنها تخرج من جحرها للفساد .

وهو في الشرع : خروج مذموم بحسب المخروج منه ، فإن كان [ ص: 108 ] إيمانا ، فذلك الفسق كفرا ، وإن كان غير إيمان ، فذلك الفسق معصية .

وقرئ في السبع : " فتبينوا " : من البيان ، و " تثبتوا " ; من التثبت ، وكلاهما بمعنى متقارب .

ولم يختلف النقلة - فيما علمت أن هذه الآية نزلت بسبب الوليد بن عقبة ، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني المصطلق مصدقا ، فلما أبصروه ، أقبلوا نحوه ، فهابهم لإحنة كانت بينهم في الجاهلية ، وقيل : إنهم لم يخرجوا إليه ، وأخبر أنهم ارتدوا ; ذكره أبو عمر بن عبد البر ، فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبره أنهم ارتدوا ومنعوا الزكاة ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد ، وأمره بالتثبت في أمرهم ، فأتاهم ليلا ، فسمع الأذان ، ووجدهم يصلون ، وقالوا له : قد استبطأنا المصدق ، وخفنا غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرجع خالد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبره بذلك ; فنزلت الآية .

ومقتضى الآية أن الفاسق لا يقبل خبره ، رواية كان أو شهادة ، وهو مجمع عليه في غير المتأول ، ما خلا ما حكي عن أبي حنيفة من حكمه بصحة عقد النكاح الواقع بشهادة فاسقين . وحكمة ذلك أن الخبر أمانة ، والفسق خيانة ، ولا يوثق بخؤون .

وقال الفقهاء : لا يقبل قوله ; لأن جرأته على الفسق تخرم الثقة بقوله ، فقد يجترئ على الكذب كما اجترأ على الفسق .

فأما الفاسق المتأول الذي لا يعرف فسق نفسه ، ولا يكفر ببدعته : فقد اختلف في قبول قوله ، فقبل الشافعي شهادته ، وردها القاضي أبو بكر . وفرق مالك بين أن يدعو إلى بدعة فلا تقبل ، أو لا يدعو فتقبل ، وروي عنه : أنه لا تقبل شهادتهم مطلقا .

وكلهم اتفقوا على أن من كانت بدعته تجرئه على الكذب كالخطابية من الرافضة ، لم تقبل روايته ولا شهادته ، ولبسط حجج هذه المذاهب موضع آخر .

[ ص: 109 ] و (قوله : " وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] : دليل على اشتراط العدالة في الشهادة ، ومعناها في اللغة : الاستقامة ، والاعتدال ضد الاعوجاج ، ويقال : عدل من العدالة والعدولة ، ويقال : عدل ، للواحد وللاثنين ولجماعة المذكر والمؤنث ، بلفظ واحد ; إذا قصد به قصد المصدر ، وإذا قصد به الصفة ، ثني وجمع ، وذكر وأنث .

وهي عند أئمتنا : اجتناب الكبائر ، واتقاء الصغائر وما يناقض المروءة ، ويزري بالمناصب الدينية ، والعبارة الوجيزة عنها هي : حسن السيرة ، واستقامة السريرة شرعا في ظن المعدل ، وتفصيلها في الفروع . وهل يكتفى في ظن حصول تلك الأحوال في العدل بظاهر الإسلام ، مع عدم الاطلاع على فسق ظاهر ، أو لا بد من اختبار حاله حتى يظن حصول تلك الأمور في المعدل ؟ قولان لأهل العلم :

الأول : مذهب أبي حنيفة .

والثاني : مذهب مالك ، والشافعي ، والجمهور ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

وعلى مذهب أبي حنيفة : فشهادة المسلم المجهول الحال مقبولة ، وهي على مذهب الجمهور مردودة . وقد ذكرنا حجج الفريقين في كتابنا : " الجامع لمقاصد علم الأصول " .

و (قوله : " ممن ترضون من الشهداء [ البقرة : 282 ] الظاهر من هذا الخطاب : أنه لمن افتتح الكلام معهم في أول الآية في قوله : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وهم : المخاطبون بقوله : وأشهدوا إذا تبايعتم [ ص: 110 ] وبقوله : واستشهدوا شهيدين من رجالكم وعلى هذا الظاهر وكل من رضيه المتداينان والمتبايعان فأشهداه ، حصل به مقتضى الخطاب ; غير أنهما قد يرضيان بمن لا يرضى به الحاكم ، ولا يسمع شهادته ، فلا ينتفعان بالإشهاد ، ولا يحصل مقصود الشرع من الاستيثاق بالشهادة ; إذ لم يثبت بما فعلاه عقد ، ولا يحفظ به مال .

ولما كان ذلك قال العلماء : إن المخاطب بذلك الحكام ; إذ هم الذين يعرفون المرضي شرعا من غيره ، فتثبت بمن يرضونه العقود ، وتحفظ الأموال والدماء والأبضاع ، ويحصل الفصل بين الخصوم فيما يتنازعون فيه من الحقوق ، وذلك هو مقصود الشرع من قاعدة الشهادة قطعا ، ولا يحصل ذلك برضا غيرهم ; فتعين الحكام لهذا الخطاب الذي هو قوله : ممن ترضون من الشهداء .

وإذا تقرر هذا ، فالذي يرضاه الحاكم : هو العدل الذي انتفت عنه التهم القادحة في الشهادة ; كالقرابة القريبة ، وجر المنفعة لنفسه أو لولده أو لزوجته ، وكالعداوة البينة ، والصداقة المفرطة - على تفصيل وخلاف يعرف في الفقه - فقد أفادت الآيتان معنيين :

أحدهما : اعتبار اجتماع أوصاف العدالة التي إذا اجتمعت ، صدق على الموصوف بهما أنه عدل .

والثاني : اعتبار نفي القوادح التي إذا انتفت ، صدق على من انتفت عنه أنه مرضي .

فلا بد من اجتماع الأمرين في قبول الشهادة ; ولذلك لا يكتفى عندنا في التزكية بأن يقول المزكي : هو عدل فقط ، بل حتى يقول : هو عدل مرضي ; فيجمع بينهما .

وأما في الأخبار : فلا بد من اعتبار المعنى الأول ، ولا يشترط الثاني [ ص: 111 ] فيها ; إذ يجوز قبول أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الراوي لها العدل ، وإن جر لنفسه بذلك نفعا ، أو لولده ، أو ساق بذلك مضرة لعدوه ; كأخبار علي - رضي الله عنه - عن الخوارج .

وسر الفرق : أنه لا يتهم أحد من أهل العدالة والدين بأن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء من ذلك ، فكيف يقتحم أحد من أهل العدالة والدين لشيء من ذلك مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن كذبا علي ليس ككذب على أحد ; فمن كذب علي ، فليتبوأ مقعده من النار " .

والخبر والشهادة ; وإن اتفقا في أصل اشتراط العدالة ، فقد يفترقان في أمور عديدة ; كما فصلناه في الأصول .

وعلى الجملة : فشوائب المتعبدات ومراعاة المناصب في الشهادات أغلب ، ومراعاة ظن الصدق في الرواية أغلب ، والله تعالى أعلم .

و (قوله عليه الصلاة والسلام : " من حدث عني بحديث يرى أنه كذب ، فهو أحد الكذابين ") : قيدناه عن مشايخنا : " يرى " مبنيا للفاعل والمفعول : فيرى بالفتح ، بمعنى : يعلم المتعدية لمفعولين ، وأن سدت مسدهما . وماضي يرى : رأى مهموزا ، وإنما تركت العرب همز المضارع ; لكثرة الاستعمال ، وقد نطقوا به على الأصل مهموزا في قولهم :


ألم تر ما لاقيت والدهر أعصر ومن يتمن العيش يرأى ويسمع

وربما تركوا همز الماضي في مثل قولهم :


صاح هل ريت أو سمعت براع     رد في الضرع ما قرا في الحلاب ؟

[ ص: 112 ] ويحتمل ما في الحديث أن يكون بمعنى الرأي ; فيكون ظنا من قولهم : رأيت كذا ، أي : ظهر لي . وعليهما يكون المقصود بالذم الذي في الحديث : المتعمد للكذب علما أو ظنا .

وأما يرى بالضم : فهو مبني لما لم يسم فاعله ، ومعناها : الظن ، وإن كان أصلها معدى بالهمزة من " رأى " ، إلا أن استعماله في الظن أكثر وأشهر .

و (قوله : " فهو أحد الكذابين ") : رويناه بكسر الباء على الجمع ; فيكون معناه : أنه أحد الكذابين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين قال الله تعالى في حقهم : ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة الآية [ الزمر : 60 ] ; لأن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذب على الله تعالى .

ورويناه أيضا - بفتح الباء على التثنية ; ويكون معناه : أن المحدث ، والمحدث بما يظنان أو يعلمان كذبه كاذبان ; هذا بما حدث ، والآخر بما تحمل من الكذب مع علمه أو ظنه لذلك .

ويفيد الحديث : التحذير عن أن يحدث أحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بما تحقق صدقه علما أو ظنا ، إلا أن يحدث بذلك على جهة إظهار الكذب ; فإنه لا يتناوله الحديث .

وفي كتاب الترمذي ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم ، فمن كذب علي متعمدا ، فليتبوأ مقعده من النار ، ومن قال في القرآن برأيه ، فليتبوأ مقعده من النار " ، وقال : هذا حديث حسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية