المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
33 [ 18 ] وفي رواية ابن عمر : حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ، وحسابهم على الله .

رواه البخاري ( 25 ) ، ومسلم ( 22 ) .


[ ص: 185 ] (7) ومن باب يقاتل الناس إلى أن يوحدوا الله ، ويلتزموا شرائع دينه

(قوله : " وكفر من كفر من العرب ") قال ابن إسحاق : لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد : مسجد المدينة ، ومسجد مكة ، ومسجد جؤاثا .

قال القاضي أبو الفضل عياض : كان أهل الردة ثلاثة أصناف : فصنف كفر بعد إسلامه ، وعاد لجاهليته ، واتبع مسيلمة والعنسي ، وصدق بهما . وصنف أقر بالإسلام إلا الزكاة فجحدها ، وتأول بعضهم أن ذلك كان خاصا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ; لقوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم [ التوبة : 103 ] ، وصنف اعترف بوجوبها ، ولكن امتنع من دفعها إلى أبي بكر ، فقال : إنما كان قبضها للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة لا لغيره ، وفرقوا صدقاتهم بأيديهم ، فرأى أبو بكر والصحابة قتال جميعهم ، الصنفان الأولان لكفرهم ، والثالث لامتناعهم .

قال المؤلف رحمه الله تعالى : وهذا الصنف الثالث هم الذين أشكل أمرهم على عمر ، فباحث أبا بكر في ذلك حتى ظهر له الحق الذي كان ظاهرا لأبي بكر ، فوافقه على ذلك ; ولذلك قال : فوالله! ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال ; فعرفت أنه الحق ، أي : ظهر له من الدليل ، وحصل له من ثلج الصدر وانشراحه لذلك ، مثل الذي حصل لأبي بكر ، لأنه قلده واتبعه بعد ظهور الدليل ; لأن التقليد لا ينشرح به الصدر ، ولا يعرف به الحق ، ولأنه لا يجوز لمجتهد أن [ ص: 186 ] يقلد مجتهدا عند تمكنه من الاجتهاد ; كما بيناه في " أصول الفقه " ، ثم إن أبا بكر قاتل جميع المرتدين الثلاثة الأصناف ، وسبى ذراريهم ; قال القاضي : وحكم فيهم بحكم الناقضين للعهد ، فلما توفي أبو بكر وولي عمر رد عليهم سبيهم ، وحكم عليهم بحكم المرتدين ، وكان أبو بكر يرى سبي أولاد المرتدين ; وبذلك قال أصبغ بن الفرج من أصحابنا ، وكان عمر يرى أنهم لا يسبون ، ولذلك رد سبيهم ; وبهذا قال جمهور العلماء وأئمة الفتوى .

ويستفاد من فعل عمر وحكمه : أن الإمام المجتهد العدل إذا أمر بأمر ، أو حكم بحكم ، وجبت موافقته على الجميع ، وإن كان فيهم من يرى خلاف رأيه ، بل يجب عليه ترك العمل والفتيا بما عنده ، وإن اعتقد صحته ، فإن عاد الأمر إليه ، عمل على رأيه الذي كان يعتقده صوابا .

ويحصل من قضية أبي بكر وعمر : أن سبي أولاد المرتدين لم يكن مجمعا عليه ، وأن عمر إنما وافق أبا بكر ظاهرا وباطنا على قتال الجميع لا غير ، وأما سبي الذراري ، فلم يوافقه عليه عمر باطنا ، لكنه ترك العمل بما ظهر له والفتيا به ; لما يجب عليه من طاعة الإمام وموافقته ، فلما ولي عمل بما كان عنده ; هذا هو الظاهر من حال عمر . ولا يجوز أن يقال : إنه كان قد ظهر له من جواز السبي ما ظهر لأبي بكر ، ثم تغير اجتهاده ; لأن ذلك يلزم منه خرق إجماع الصحابة السابق ; فإنهم كانوا قد أجمعوا مع أبي بكر على السبي ، وعملوا بذلك من غير مخالفة ظهرت من أحد منهم ولا إنكار ظاهر ; غير أنهم منقسمون في ذلك إلى [ ص: 187 ] من ظهر له جواز ذلك ; فسكت لذلك ، ومنهم : من ظهر له خلاف ذلك ; فسكت بحكم ترجيح قول الإمام العدل المجتهد على رأيه ، ولوجوب اتباع الإمام على ما يراه ، والعمل به ; فإذا فقد ذلك الإمام ، تعين على ذلك المجتهد أن يعمل على ما كان قد ظهر له ، لكن بعد تجديد النظر ، لا أنه يعتمد على ذلك الرأي الأول من غير إعادة البحث ثانية ; لإمكان التغيير على ما بينته في " علم الأصول " .

وقد حكى بعض الناس : أن الإجماع انعقد بعد أبي بكر على أن المرتد لا يسبى ; وليس ذلك بصحيح ; لوجود الخلاف في ذلك ; كما قد حكيناه عن أصبغ ، ولأنه يؤدي إلى تناقض الإجماعين ، وهو محال ; كما يعرف في " الأصول " . ولما اعتقد بعض الأصوليين في هذه المسألة إجماعين متناقضين رأى أن المخلص من ذلك : اشتراط انقراض العصر في صحة الإجماع ، فلم ينعقد عند هذا القائل فيها إجماع أولا ولا آخرا ; لأن عصر الصحابة لم يكن انقرض في زمان عمر .

قال المؤلف - رحمه الله تعالى - : واشتراط انقراض العصر في دلالة الإجماع باطل ; لأنه زيادة شرط في دلالات الإجماع الصحيحة ، من غير أن يشهد لتلك الزيادة عقل ولا نقل ، والصحيح من هذه المسألة : أنه لا إجماع فيها أولا ولا آخرا ; لإضمار الخلاف فيها في عصر أبي بكر ، والتصريح به بعده ، والله تعالى أعلم .

و ( قول عمر لأبي بكر : " كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ") ؟ ظاهره : أن من نطق بكلمة التوحيد فقط حكم له بحكم الإسلام . وهذا الظاهر متروك قطعا ; إذ لا بد مع ذلك من [ ص: 188 ] النطق بالشهادة بالرسالة أو بما يدل عليها ، لكنه سكت عن كلمة الرسالة ; لدلالة كلمة التوحيد عليها ; لأنهما متلازمان ، فهي مرادة قطعا .

ثم النطق بالشهادتين يدل على الدخول في الدين والتصديق بكل ما تضمنه ; وعلى هذا : فالنطق بالكلمة الأولى يفيد إرادة الثانية ، كما يقال : قرأت : الحمد لله رب العالمين والمراد جميع السورة . ويدل على صحة ما قلناه : الروايات الأخر التي فيها : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، وفي لفظ آخر : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي ، وبما جئت به . غير أن أبا بكر وعمر لم يحضر لهما في وقت هذه المناظرة غير ذلك اللفظ الذي ذكراه ; إذ لو حضر لهما قوله - عليه الصلاة والسلام - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، لارتفع البحث بينهما ; لأن هذا اللفظ نص في المطلوب ، وأوضح في الدلالة مما استدل به أبو بكر من قوله : لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة .

ويعني بهذا أبو بكر - والله أعلم - : أن الله تعالى قد سوى بين الصلاة والزكاة في الوجوب في قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 43 ] ; وفي غيرها ، فقد جمع الله تعالى بينهما في الأمر بهما ، والصلاة المأمور بها واجبة قطعا ; فالزكاة مثلها ، فمن فرق بينهما قوتل .

ويمكن أن نشير بذلك إلى قوله تعالى : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم [ التوبة : 5 ] ، ودليل خطابها : أن من لم يفعل جميع ذلك لم يخل سبيله ، فيقاتل إلى أن يقتل أو يتوب ، وبهذه الآية وبذلك الحديث استدل الشافعي ومالك ومن قال بقولهما على قتل تارك الصلاة وإن كان معتقدا لوجوبها ; على ما يأتي إن شاء الله تعالى .

و (قوله : " فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ") عصم : منع ، والعصمة : المنع والامتناع ، والعصام : الخيط الذي يشد به فم القربة ، سمي بذلك ; لمنعه الماء [ ص: 189 ] من السيلان ، والحق المستثنى : هو ما بينه - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر بقوله : زنى بعد إحصان ، أو كفر بعد إيمان ، أو قتل النفس التي حرم الله ، وسيأتي ذكره في الحدود .

و (قوله : " وحسابهم على الله ") أي : حساب سرائرهم على الله ; لأنه تعالى هو المطلع عليها ; فمن أخلص في إيمانه وأعماله جازاه الله عليها جزاء المخلصين ، ومن لم يخلص في ذلك كان من المنافقين ، يحكم له في الدنيا بأحكام المسلمين ، وهو عند الله من أسوأ الكافرين .

ويستفاد منه : أن أحكام الإسلام إنما تدار على الظواهر الجلية ، لا الأسرار الخفية .

و (قوله : " والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه ") اختلف في هذا العقال على أقوال : أولها : أنه الفريضة من الإبل ; رواه ابن وهب عن مالك ، وقاله النضر بن شميل . وثانيها : أنه صدقة عام ; قاله الكسائي ; وأنشد :


سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين ؟ !

[ ص: 190 ] وثالثهما : أنه كل شيء يؤخذ في الزكاة من أنعام وثمار ; لأنه يعقل عن مالكه ; قاله أبو سعيد الضرير .

ورابعها : هو ما يأخذه المصدق من الصدقة بعينها ، فإن أخذ عوضها ، قيل : أخذ نقدا ; ومنه قول الشاعر :


ولم يأخذ عقالا ولا نقدا

وخامسها : أنه اسم لما يعقل به البعير ; قاله أبو عبيد ، وقال : قد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمد بن مسلمة على الصدقة ، فكان يأخذ مع كل قرينين عقالا ورواء .

قال المؤلف - رحمه الله تعالى - : والأشبه بمساق قول أبي بكر أن يراد بالعقال : ما يعقل به البعير ; لأنه خرج مخرج التقليل ، والله أعلم .

وقد روي في غير كتاب مسلم : لو منعوني عناقا مكان عقالا ، وهو الجذع من أولاد المعز . وقد روي : جذعا مكان عناقا ، وهو تفسير له ، والجذع من أولاد الغنم : هو الذي جاوز ستة أشهر إلى آخر السنة ، ثم هو ثني . وبهذه الرواية تمسك من أجاز أخذ الجذع [ ص: 191 ] من المعز في الزكاة إذا كانت سخالا كلها ; وهو قول الشافعي ، وأحد قولي مالك ، وليس بالمشهور عنه . ولا حجة في ذلك ; لأنه خرج مخرج التقليل ; فإن عادة العرب إذا أغيت تقليل شيء ، ذكرت في كلامها ما لا يكون مقصودا ; كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة ، وفي أخرى : ولو ظلفا محرقا ، وليسا مما ينتفع به ، وكذلك قوله - عليه الصلاة والسلام - : من بنى مسجدا لله ولو مثل مفحص قطاة ; وذلك القدر لا يكون مسجدا ، ونحو من هذا في الإغياء قول امرئ القيس :


من القاصرات الطرف لو دب محول     من الذر فوق الإتب منها لأثرا

ونحوه كثير في كلامهم في التقليل والتكثير والتعظيم والتحقير .

وفي الحديث : حجة على أن الزكاة لا تسقط عن المرتد بردته ، بل يؤخذ منه ما وجب عليه منها ، فإن تاب ، وإلا قتل وكان ماله فيئا .

التالي السابق


الخدمات العلمية