المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4485 (48) باب فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم

[ 2358 ] عن المسور بن مخرمة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، وهو يقول : إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، فلا آذن لهم ، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم ، إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم ، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها .

وفي رواية : أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له : إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك ، وهذا علي ناكحا ابنة أبي جهل ، قال : المسور : فقام النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي رواية : يخطب الناس في ذلك على منبره هذا، وأنا يومئذ محتلم فسمعته حين تشهد، قال : "أما بعد ، فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني" .

وفي رواية : "ووعدني،
وإن فاطمة بنت محمد مضغة مني، وإنما أكره أن يفتنوها".

وفي رواية : "في دينها ، وإني لست أحرم حلالا، ولا أحل حراما ، وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا" . قال : فترك علي الخطبة .


رواه أحمد (4 \ 328)، والبخاري (5230)، ومسلم (2449) (93 - 96)، وأبو داود (2071)، والترمذي (3867)، وابن ماجه (1998).


[ ص: 351 ] (48) ومن باب فضائل فاطمة رضي الله عنها- بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ

سيدة نساء العالمين رضي الله عنها ، وقد اختلف في أصغر بنات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قال أبو عمر : والذي تسكن النفس إليه : أن زينب هي الأولى ، ثم رقية ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ولدت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنة إحدى وأربعين من مولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتزوجها علي - رضي الله عنهما - بعد وقعة أحد . وقيل : بعد أن ابتنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعائشة - رضي الله عنها - بأربعة أشهر ونصف شهر ، وبنى بها علي بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف ، وكان سنها يوم تزوجها رضي الله عنهما خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصفا ، وسن علي يومئذ : إحدى وعشرون سنة وستة أشهر ، وولدت له الحسن والحسين ، وأم كلثوم ، وزينب ، وتوفيت بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيسير . قيل : بثمانية أشهر . وقيل : بستة أشهر . وقيل : بثلاثة أشهر . وقيل : بسبعين يوما . وقيل : بمائة يوم . وهي أحب بنات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه ، وأكرمهن عنده ، وسيدة نساء أهل الجنة على ما تقدم في باب خديجة . وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قدم من سفر يبدأ بالمسجد فيصلي فيه ، ثم يبدأ ببيت فاطمة فيسأل عنها ، ثم يدور على سائر نسائه ، إكراما لها ، واعتناء بها ، وهي أول من ستر [ ص: 352 ] نعشها في الإسلام ، وذلك أنها لما احتضرت قالت لأسماء بنت عميس : إني قد استقبحت ما يفعل بالنساء ، إنه يطرح على المرأة الثوب يصفها ، فقالت أسماء : يا ابنة رسول الله ! ألا أريك شيئا رأيته في الحبشة ؟! فدعت بجرائد رطبة ، فحنتها ، ثم طرحت عليها ثوبا ، فقالت فاطمة : ما أحسن هذا وأجمله ، تعرف به المرأة من الرجل ، فإذا أنا مت ، فاغسليني أنت وعلي ، ولا تدخلي أحدا . فلما توفيت جاءت عائشة لتدخل ، فقالت أسماء : لا تدخلي . فشكت إلى أبي بكر فقالت : إن هذه الخثعمية تحول بيننا وبين بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد جعلت لها مثل هودج العروس ، فجاء أبو بكر فوقف على الباب ، فقال : يا أسماء ! ما حملك على أن منعت أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدخلن على بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وجعلت لها مثل هودج العروس ؟ فقالت : أمرتني ألا يدخل عليها أحد ، وأريتها هذا الذي صنعت ، فأمرتني أن أصنع ذلك بها . قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : اصنعي ما أمرتك ، ثم انصرف . وغسلها علي ، وأشارت أن يدفنها ليلا ، وصلى عليها العباس ، ونزل في قبرها هو وعلي والفضل ، وتوفيت وهي بنت ثلاثين سنة ، وقيل : بنت خمس وثلاثين .

و (قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن فاطمة بضعة مني ، يريبني ما رابها ") البضعة - بفتح الباء - : القطعة من اللحم ، وتجمع بضاع ، كقصعة وقصاع ، وهي مأخوذة من البضع ، وهو القطع ، وقد سماها في الرواية الأخرى : مضغة ، وهي قدر ما يمضغها الماضغ ، ويعني بذلك : أنها كالجزء منه يؤلمه ما آلمها . و" يريبني ما رابها " : أي يشق علي ويؤلمني . يقال : رابني فلان : إذا رأيت منه ما تكرهه - ثلاثيا - والاسم منه : الريبة .

[ ص: 353 ] وهذيل تقول فيه : أرابني - رباعيا- والمشهور : أن أراب : إنما هو بمعنى صار ذا ريبة ، فهو مريب ، وارتاب بمعنى : شك ، والريب : الشك .

و (قولها : " هذا علي ناكحا ابنة أبي جهل ") كذا الرواية : ناكحا بالنصب على الحال ، لأن الكلام قبله مستقل بنفسه ، لأن قولها : " هذا علي " ، كقولك : هذا زيد ، لكن رفعه أحسن لو روي ، لأنه هو المقصود بالإفادة ، و" علي " توطئة له .

و (قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا آذن ، ثم لا آذن ، ثم لا آذن ") تأكيد لمنع الجمع بين فاطمة ، وبين ابنة أبي جهل ، لما خاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على فاطمة من الفتنة من أجل الغيرة ، ولما توقع من مناكدة هذه الضرة ، لأن عداوة الآباء قد تؤثر في الأبناء .

و (قوله : " وإني لست أحرم حلالا ، ولا أحل حراما ") صريح في أن الحكم بالتحليل والتحريم من الله تعالى ، وإنما الرسول مبلغ ، ويستدل به في منع اجتهاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأحكام ، ومن منع جواز تفويض الأحكام إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا حجة فيه ، لأن اجتهاد المجتهد لا يوجب الأحكام ، ولا ينشئها ، وإنما هو مظهر لها ، [ ص: 354 ] كما أوضحناه في الأصول .

ويفيد هذا : أن حكم الله على علي ، وعلى غيره التخيير في نكاح ما طاب له من النساء إلى الأربع ، ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما منع عليا من ذلك لما خاف على ابنته من المفسدة في دينها من ضرر عداوة تسري إليها ، فتتأذى في نفسها ، فيتأذى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسببها ، وأذى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرام ، فيحرم ما يؤدي إليه . ففيه القول بسد الذرائع ، وإعمال المصالح ، وأن حرمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم من حرمة غيره ، وتظهر فائدة ذلك : بأن من فعل منا فعلا يجوز له فعله لا يمنع منه ، وإن تأذى بذلك الفعل غيره ، وليس ذلك حالنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل يحرم علينا مطلقا فعل كل شيء يتأذى به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان في أصله مباحا ، لكنه إن أدى إلى أذى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ارتفعت الإباحة ، ولزم التحريم .

وفيه : ما يدل على جواز غضب الرجل لابنته وولده وحرمه ، وعلى الحرص في دفع ما يؤدي لضررهم ، إذا كان ذلك بوجه جائز .

وفيه ما يدل على جواز خطبة الإمام الناس وجمعهم لأمر يحدث .

و (قوله : " والله لا تجتمع ابنة نبي الله وابنة عدو الله عند رجل واحد أبدا ") دليل على أن الأصل أن ولد الحبيب حبيب ، وولد العدو عدو ، إلى أن يتيقن خلاف ذلك ، وقد استنبط بعض الفقهاء من هذا منع نكاح الأمة على الحرة ، وليس بصحيح ، لأنه يلزم منه منع نكاح الحرة الكتابية على المسلمة ، ومنع نكاح ابنة المرتد على من ليس أبوها كذلك ، ولا قائل به فيما أعلم . فدل ذلك على أن ذلك الحكم مخصوص بابنة أبي جهل وفاطمة رضي الله عنها .

و (قوله : " فترك علي الخطبة ") يعني : لابنة أبي جهل وغيرها ، ولم يتزوج عليها ، ولا تسرى حتى ماتت رضي الله عنها .

[ ص: 355 ] و (قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن أبا العاص بن الربيع حدثني فصدقني ، ووعدني فوفى لي ") أبو العاص هذا : هو زوج ابنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زينب رضي الله عنها ، واسمه : لقيط -على الأكثر - . وقيل : هشيم بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف ، وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة لأبيها ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أنكحه زينب ، وهي أكبر بناته وذلك بمكة فأحسن عشرتها ، وكان محبا لها ، وأرادت منه قريش أن يطلقها فأبى ، فشكر له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك ، ثم إنه حضر مع المشركين ببدر فأسر ، وحمل إلى المدينة ، فبعثت فيه زينب قلادتها ، فردت عليها ، وأطلق لها ، وكان وعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرسلها إليه ففعل ، وهاجرت زينب ، وبقي هو بمكة على شركه إلى أن خرج في عير لقريش تاجرا ، وذلك قبيل الفتح بيسير ، فعرض لتلك العير زيد بن حارثة في سرية من المسلمين من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخذها ، وأفلت أبو العاص هاربا إلى أن جاء إلى المدينة ، فاستجار بزينب فأجارته ، وكلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس في رد جميع ما أخذ من تلك السرية ، ففعلوا ، وقال : إنه يرد أموال قريش ، ويسلم ، ففعل ذلك ، فلذلك شكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : " حدثني فصدقني ، ووعدني فوفى لي " .

التالي السابق


الخدمات العلمية