المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4497 (52) باب فضائل بلال بن رباح

[ 2368 ] عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال صلاة الغداة : " يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة ، فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة" . قال بلال : ما عملت عملا في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل ولا نهار ، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي .

رواه أحمد ( 2 \ 333 )، والبخاري (1149)، ومسلم (2458).


[ ص: 367 ] (52) ومن باب : فضائل بلال بن رباح ـ رضي الله عنه ـ

وتسمى أمه : حمامة ، واختلف في كنيته ، فقيل : أبو عبد الله ، وقيل : أبو عبد الكريم ، وقيل : أبو عبد الرحمن ، وقيل : أبو عمرو ، وكان حبشيا . قال ابن إسحاق : كان بلال لبعض بني جمح مولدا من مولديهم ، وقيل من مولدي مكة ، وقيل : من مولدي السراة ، وقال ابن مسعود : أول من أظهر الإسلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر ، وعمار ، وأمه سمية ، وصهيب ، وبلال ، والمقداد ، فأما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمنعه الله بعمه ، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه ، وأما سائرهم فأخذهم المشركون ، وألبسوهم أدراع الحديد ، وصهروهم في الشمس ، فما منهم إنسان إلا وأتاهم على ما أرادوه منه إلا بلالا ، فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى ، وهان على قومه فأعطوه الولدان ، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة ، وهو يقول : " أحد ، أحد " ، وفي رواية : وجعلوا الحبل في عنقه ، وقال سعيد بن المسيب : كان بلال شحيحا على دينه ، وكان يعذب على دينه ، فإذا أراد المشركون أن يقاربهم قال : الله ، الله . فاشتراه أبو بكر بخمس أواق ، وقيل : بسبع . وقيل : بتسع ، فأعتقه ، فكان يؤذن لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما مات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أراد أن يروح إلى الشام ، فقال له أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : بل تكون عندي ، فقال : إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني ، وإن كنت أعتقتني لله فذرني أذهب إليه ، فقال : اذهب ، فذهب إلى الشام ، فكان بها حتى مات ـ رضي الله عنه ـ .

قلت : وظاهر هذا : أنه لم يؤذن لأبي بكر ، وقد ذكر ابن أبي شيبة عن حسين بن علي ، عن شيخ يقال له : الحفصي ، عن أبيه ، عن جده قال : أذن بلال حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم أذن لأبي بكر حياته ، ولم يؤذن في زمان عمر ، فقال له [ ص: 368 ] عمر : ما منعك أن تؤذن ؟ قال : إني أذنت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى قبض ، وأذنت لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ حتى قبض ، لأنه كان ولي نعمتي ، وقد سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " يا بلال ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله " . فخرج فجاهد . ويقال : إنه أذن لعمر ـ رضي الله عنه ـ إذ دخل الشام ، فبكى عمر ، وبكى المسلمون . وكان بلال خازنا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقال عمر : أبو بكر سيدنا ، وأعتق بلالا سيدنا . وتوفي بلال بدمشق ، ودفن عند الباب الصغير بمقبرتها سنة عشرين ، وهو ابن ثلاث وستين سنة ، وقيل : سنة إحدى وعشرين ، وهو ابن سبعين .

و (قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبلال : " حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة ") هذا السؤال إنما أخرجه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما اطلع عليه من كرامة بلال ـ رضي الله عنه ـ بكونه أمامه في الجنة ، فسأله عن العمل الذي لازمه حتى أوصله إلى ذلك . وقد جاء هذا الحديث في كتاب الترمذي بأوضح من هذا من حديث بريدة بن الحصيب ، قال : أصبح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدعا بلالا ، فقال : " يا بلال ! بم سبقتني إلى الجنة ؟ فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي ، دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي . . ." ، وذكر الحديث . فقال بلال : يا رسول الله ! ما أذنت قط إلا صليت ركعتين ، ولا أصابني حدث قط إلا توضأت عنده ، ورأيت أن لله تعالى علي ركعتين ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " بهما " . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، فلنبحث في هذا الحديث .

[ ص: 369 ] و (قوله : " بم سبقتني إلى الجنة ؟ " لا يفهم من هذا أن بلالا يدخل الجنة قبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإن ذلك ممنوع بما قد علم من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو السابق إلى الجنة ، وبما قد تقدم أنه أول من يستفتح باب الجنة ، فيقول الخازن : " بك أمرت ، لا أفتح لأحد قبلك ") ، وإنما هذه رؤيا منام أفادت أن بلالا من أهل الجنة ، وأنه يكون فيها مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن ملازميه ، وهذا كما قال في الغميصاء : " سمعت خشخشتك أمامي " ، وقد لا يبعد أن يقال في أسبقية بلال أنها أسبقية الخادم بين يدي مخدومه ، والله تعالى أعلم .

وفيه ما يدل على أن استدامة بعض النوافل ، وملازمتها في أوقات وأحوال فيه فضل عظيم ، وأجر كبير ، وإن كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يدم عليها ، ولا لازمها ، ولا اشتهر العمل بها عند أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ، وأن ذلك لا ينكر على من لازمه ما لم يعتقد أن ذلك سنة راتبة له ولغيره ، وهذا هو الذي منعه مالك حتى كره اختصاص شيء من الأيام ، أو الأوقات بشيء من العبادات ، من الصوم ، والصلاة ، والأذكار ، والدعوات ، إلا أن يعينه الشارع ، ويدوم عليه ، فأما لو دام الإنسان على شيء من ذلك في خاصة نفسه ، ولم يعتقد شيئا من ذلك ، كما فعله بلال في ملازمة الركعتين عند كل أذان ، وفي ملازمة الطهارة دائما ، لكان ذلك يفضي بفاعله إلى نعيم مقيم، وثواب عظيم .

و (قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " بهما ") أي : بسبب ثواب فعل ذينك الأمرين وصلت إلى ما رأيت من كونك معي في الجنة .

[ ص: 370 ] و (قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " حدثني بأرجى عمل عملته ") أي : بعمل يكون رجاؤك بثوابه أكثر ، ونفسك به أوثق . وفيه تنبيه على : أن العامل لشيء من القرب ينبغي له أن يأتي بها على أكمل وجوهها ليعظم رجاؤه في قبولها ، وفي فضل الله عليها ، فيحسن ظنه بالله تعالى ، فإن الله تعالى عند ظن عبده به ، ويتضح لك هذا بمثل - ولله المثل الأعلى - أن الإنسان إذا أراد أن يتقرب إلى بعض ملوك الدنيا بهدية أو تحفة ، فإن أتى بها على أكمل وجوهها وأحسن حالاتها ، قوي رجاؤه في قبولها ، وحسن ظنه في إيصاله إلى ثوابها ، لا سيما إذا كان المهدى له موصوفا بالفضل والكرم ، وإن انتقص شيء من ثوابها ضعف رجاؤه للثواب ، وقد يتوقع الرد ، لا سيما إذا علم أن المهدى له غني عنها ، فأما لو أتى بها واضحة النقصان ، لكان ذلك من أوضح الخسران ، إذ قد صار المهدى له كالمستصغر المهان .

التالي السابق


الخدمات العلمية