المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4557 (67) باب

فضائل أبي سفيان بن حرب - رضي الله عنه -

[ 2409 ] عن ابن عباس قال : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا نبي الله ثلاث أعطنيهن، قال : نعم ، عندي أحسن العرب، وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها، قال : نعم، قال : ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك، قال : نعم، قال : وتؤمرني حتى أقاتل الكفار ، كما كنت أقاتل المسلمين، قال : نعم . قال أبو زميل : ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه ذلك ؛ لأنه لم يكن يسأل شيئا إلا قال : نعم .

رواه مسلم (2501).


[ ص: 453 ] (67) ومن باب : فضائل أبي سفيان بن حرب

واسمه صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي ، وكان من أشراف قريش ، وساداتها ، وذوي رأيها في الجاهلية ، أسلم يوم فتح مكة ، وقد تقدم خبر إسلامه ، وشهد حنينا ، وأعطاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غنائمها مائة بعير ، وأربعين أوقية وزنها له بلال . قال أبو عمر : واختلف في حسن إسلامه ، فطائفة تروي : أنه لما أسلم حسن إسلامه ، وذكروا عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : رأيت أبا سفيان يوم اليرموك تحت راية ابنه يزيد يقاتل . يقول : يا نصر الله اقترب . وروي عنه أنه قال : فقدت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت رجل واحد يقول : يا نصر الله اقترب ، قال المسيب : فذهبت أنظر ، فإذا هو أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه . وقد روي : أن أبا سفيان كان يوم اليرموك يقف على الكراديس فيقول للناس : الله ! الله ! إنكم ذادة العرب ، وأنصار الإسلام ، وإنهم ذادة الروم ، وأنصار المشركين ، اللهم هذا يوم من أيامك ، اللهم أنزل نصرك على عبادك .

وطائفة تروي : أنه كان كهفا للمنافقين منذ أسلم ، وكان في الجاهلية ينسب إلى الزندقة ، وكان إسلامه يوم الفتح كرها كما تقدم من حديثه ، ومن قوله في كلمتي الشهادة حين عرضت عليه : أما هذه ففي النفس منها شيء . وفي خبر ابن الزبير أنه رآه يوم اليرموك قال : فكانت الروم إذا ظهرت قال أبو سفيان : إيه بني الأصفر !

و (قول ابن عباس : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان بن حرب ولا يقاعدونه ) إنما كان ذلك لما كان من أبي سفيان من صنيعه بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبالمسلمين [ ص: 454 ] في شركه ، إذ لم يصنع أحد بهم مثل صنيعه ، ثم إنه أسلم يوم الفتح مكرها ، وكان من المؤلفة قلوبهم ، وكأنهم ما كانوا يثقون بإسلامه ، وقد ذكرنا اختلاف العلماء في نفاقه .

و (قوله : عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها ؟ قال : نعم ) الضمير في " أجمله " عائد على الجنس الذي دل عليه العرب ، وأم حبيبة هذه اسمها رملة ، وقيل : هند ، والأول هو المعروف والصحيح ، وإنما هند بنت عتبة زوجة أبى سفيان ، وأم معاوية . وظاهر هذا الحديث أن أبا سفيان أنكح ابنته النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد إسلامه ، وهو مخالف للمعلوم عند أهل التواريخ والأخبار ، فإنهم متفقون على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان قبل الفتح ، وقبل إسلام أبيها ، فإن أبا سفيان قدم قبل الفتح المدينة طالبا تجديد العهد بينه وبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه دخل بيت أم حبيبة ابنته ، فأراد أن يجلس على بساط رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنزعته من تحته ، فكلمها في ذلك ، فقالت : إنه بساط رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنت مشرك ! فقال لها : يا بنية لقد أصابك بعدي شر ، ثم طلب من علي ، ومن فاطمة ومن غيرهما أن يكلموا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصلح ، فأبوا عليه ، فرجع إلى مكة من غير مقصود حاصل ، وكل ذلك معلوم لا شك فيه ، ثم إن الأكثر من الروايات والأصح منها : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تزوج أم حبيبة ، وهي بأرض الحبشة ، وذلك أنها كانت تحت عبد الله بن جحش الأسدي ، أسد خزيمة ، فولدت له حبيبة التي كنيت بها ، وأنها أسلمت وأسلم زوجها عبيد الله بن جحش وهاجر بها إلى أرض الحبشة ، ثم إن زوجها تنصر هناك ، ومات نصرانيا ، ثم إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطبها وهي بأرض الحبشة فبعث شرحبيل بن حسنة إلى النجاشي في ذلك . روى الزبير بن بكار عن [ ص: 455 ] إسماعيل بن عمرو : أن أم حبيبة قالت : ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشي جارية يقال له : أبرهة ، كانت تقوم على ثيابه ودهنه ، فاستأذنت علي فأذنت لها ، فقالت : إن الملك يقول لك : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتب أن أزوجكه ، فقلت : بشرك الله بخير ، وقالت : يقول لك الملك : وكلي من يزوجك ، فأرسلت إلى خالد بن سعيد فوكلته ، وأعطيت أبرهة سوارين من فضة كانتا علي ، وخواتم فضة كانت في أصابعي سرورا بما بشرتني به ، فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ، ومن هناك من المسلمين يحضرون ، وخطب النجاشي فقال : الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم ، أما بعد : فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتب إلي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد أصدقتها أربعمائة دينار ، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم ، فتكلم خالد بن سعيد ، فقال : الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون ، أما بعد : فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فبارك الله لرسوله . ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد ، فقبضها ، ثم أرادوا أن يقوموا فقال : اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج ، فدعا بطعام فأكلوا ، ثم تفرقوا . قال الزبير : قدم خالد بن سعيد ، وعمرو بن العاص بأم حبيبة من أرض الحبشة عام الهدنة . وقال بعض الرواة : إنما أصدقها أربعة آلاف درهم ، وأن عثمان بن عفان هو الذي أولم عليها ، وأنه هو الذي زوجها إياه ، وقيل : زوجها النجاشي .

قلت : ويصح الجمع بين هذه الروايات، فتكون الأربعمائة دينار صرفت، أو قومت بأربعة آلاف درهم، وأن النجاشي هو الخاطب، وعثمان هو العاقد، [ ص: 456 ] وسعيد الوكيل ، فصحت نسبة التزويج لكلهم ، وهذا هو المعروف عند جمهور أهل التواريخ والسير ، كابن شهاب ، وابن إسحاق ، وقتادة ، ومصعب ، والزبير وغيرهم .

وقد روي عن قتادة قول آخر : أن عثمان بن عفان زوجها من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة بعدما قدمت من أرض الحبشة . قال أبو عمر : والصحيح الأول ، وروي أن أبا سفيان قيل له وهو يحارب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن محمدا قد نكح ابنتك ! فقال : ذلك الفحل الذي لا يقدع أنفه . وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : تزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أم حبيبة سنة ست من التاريخ ، قال غيره : سنة سبع ، قال أبو عمر : توفيت أم حبيبة سنة أربع وأربعين .

قلت : فقد ظهر أنه لا خلاف بين أهل النقل أن تزويج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ متقدم على إسلام أبيها أبي سفيان ، وعلى يوم الفتح ، ولما ثبت هذا تعين أن يكون طلب أبي سفيان تزويج أم حبيبة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد إسلامه خطأ ووهما ، وقد بحث النقاد عمن وقع منه ذلك الوهم فوجدوه قد وقع من عكرمة بن عمار . قال أبو الفرج الجوزي : اتهموا به عكرمة بن عمار ، وقد ضعف أحاديثه يحيى بن سعيد ، وأحمد بن حنبل ، [ ص: 457 ] ولذلك لم يخرج عنه البخاري ، وإنما أخرج عنه مسلم ، لأنه قد قال فيه يحيى بن معين : هو ثقة . وقال أبو محمد علي بن أحمد الحافظ : هذا حديث موضوع ، لا شك في وضعه ، والآفة فيه من عكرمة بن عمار ، قال بعضهم : ومما يحقق الوهم في هذا الحديث قول أبي سفيان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أريد أن تؤمرني . فقال له : " نعم " . ولم يسمع قط أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر أبا سفيان على أحد إلى أن توفي ، فكيف يخلف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوعد ؟ هذا ما لا يجوز عليه .

قلت : قد تأول بعض من صح عنده ذلك الحديث ، بأن قال : إن أبا سفيان إنما طلب من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجدد معه عقدا على ابنته المذكورة ظنا منه أن ذلك يصح ، لعدم معرفته بالأحكام الشرعية ، لحداثة عهده بالإسلام ، واعتذر عن عدم تأميره مع وعده له بذلك ، لأن الوعد لم يكن مؤقتا ، وكان يرتقب إمكان ذلك فلم يتيسر له ذلك إلى أن توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو لعله ظهر له مانع شرعي منعه من توليته الشرعية ، وإنما وعده بإمارة شرعية فتخلف لتخلف شرطها ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية