المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4559 (69) باب فضائل سلمان وصهيب - رضي الله عنهما -

[ 2411 ] عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان، وصهيب وبلال في نفر ، فقالوا : ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها . قال : فقال أبو بكر : تقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره . فقال : يا أبا بكر لعلك أغضبتهم ، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك. فأتاهم فقال : يا إخوتاه أغضبتكم ؟ قالوا : لا ، يغفر الله لك يا أخي .

رواه مسلم (2504).


(69) ومن باب : فضائل سلمان وصهيب - رضي الله عنهما -

أما سلمان ، فيكنى : أبا عبد الله ، وكان ينتسب إلى الإسلام ، فيقول : أنا سلمان ابن الإسلام ، ويعد من موالي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لأنه أعانه بما كوتب عليه ، فكان سبب عتقه ، وكان يعرف بسلمان الخير ، وقد نسبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أهل بيته ، فقال : " سلمان منا أهل البيت " . وأصله فارسي من رام هرمز ، من قرية يقال لها : جي . ويقال : بل من أصبهان ، وكان أبوه مجوسيا من قوم مجوس ، فنبهه الله لقبح ما كان عليه أبوه وقومه ، وجعل في قلبه التشوف إلى طلب الحق ، فهرب بنفسه ، وفر من أرضه إلى أن وصل إلى الشام ، فلم يزل يجول في البلدان ، ويختبر الأديان ، ويستكشف الأحبار والرهبان ، إلى أن دل على راهب الوجود ، فوصل إلى المقصود ، وذلك بعد مكابدة عظيم المشقات ، والصبر على مكاره الحالات ، من : الرق ، والإذلال ، والأسر ، والأغلال ، كما هو منقول في إسلامه في كتب السير وغيرها .

[ ص: 463 ] وروى أبو عثمان النهدي عن سلمان أنه قال : تداوله في ذلك بضعة عشر ربا ، من رب إلى رب حتى أفضى إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

قال غيره : فاشتراه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للعتق من قوم من اليهود بكذا وكذا درهما ، وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل ، يعمل فيها سلمان حتى تدرك ، فغرس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ النخل كلها بيده ، فأطعمت النخل من عامها .

وأول مشاهده مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخندق ، ولم يفته بعد ذلك مشهد معه . وقد قيل : إنه شهد بدرا وأحدا ، والأول أعرف . وكان خيرا فاضلا حبرا عالما زاهدا متقشفا . روي عن الحسن أنه قال : كان عطاء سلمان خمسة آلاف ، وكان إذا خرج عطاؤه تصدق به ، ويأكل من عمل يده ، وكانت له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها .

وذكر ابن وهب ، وابن نافع عن مالك قال : كان سلمان يعمل الخوص بيده فيعيش منه ، ولا يقبل من أحد شيئا ، قال : ولم يكن له بيت ، إنما كان يستظل بالجدر والشجر ، وإن رجلا قال له : ألا أبني لك بيتا تسكن فيه ؟ فقال : ما لي به حاجة ، فما زال به الرجل حتى قال له : إني أعرف البيت الذي يوافقك ، قال : فصفه لي . فقال : أبني لك بيتا إذا أنت قمت فيه أصاب رأسك سقفه ، وإذا أنت مددت رجليك أصابك الجدار . قال : نعم ، فبني له .

وروي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : " لو كان الدين في الثريا لناله سلمان " . وفي رواية : " رجال من الفرس " . وقالت عائشة رضي الله عنها : كان لسلمان [ ص: 464 ] مجلس من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن الله أمرني أن أحب أربعة ، وأخبرني أنه يحبهم : علي ، وأبو ذر ، والمقداد ، وسلمان " . وقال أبو هريرة : سلمان صاحب الكتابين ، وقال علي : سلمان علم العلم الأول والآخر ، بحر لا ينزف ، هو منا أهل البيت . وقال علي رضي الله عنه أيضا : سلمان الفارسي مثل لقمان الحكيم . وله أخبار حسان ، وفضائل جمة . توفي سلمان رضي الله عنه في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه سنة خمس وثلاثين ، وقيل : مات بل سنة ست في أولها ، وقد قيل : توفي في خلافة عمر ، والأول أكثر . قال الشعبي : توفي بالمدائن ، وكان من المعمرين ، أدرك وصي عيسى ابن مريم ، وعاش مائتين وخمسين سنة ، وقيل : ثلاثمائة وخمسين سنة . قال أبو الفرج : والأول أصح ، وجملة ما حفظ له عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ستون حديثا ، أخرج له منها في الصحيحين سبعة .

وأما صهيب ، فهو ابن سنان بن خالد بن عبد عمرو - من العرب - بن النمر بن ساقط ، كان أبوه عاملا لكسرى على الأبلة ، وكانت منازلهم بأرض الموصل في قرية على شط الفرات ، مما يلي الجزيرة والموصل ، فأغارت الروم على تلك الناحية فسبت صهيبا ، وهو غلام صغير ، فنشأ صهيب بالروم ، فصار ألكن ، فابتاعته منه كلب ، ثم قدمت به مكة ، فاشتراه عبد الله بن جدعان ، فأعتقه ، فأقام بمكة حتى هلك ابن جدعان ، وبعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأسلم هو وعمار بن ياسر في يوم واحد بعد بضعة وثلاثين رجلا ، فلما هاجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة لحقه صهيب ، فقالت له قريش حين خرج يريد الهجرة : أتفجعنا بنفسك ومالك ؟ فدلهم على ماله ، فتركوه ، فلما رآه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له : " ربح البيع أبا يحيى " . فأنزل الله عز وجل في أمره : [ ص: 465 ] ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله الآية [البقرة: 207].

وروي عنه أنه قال : صحبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يوحى إليه .

وروي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحب صهيبا حب الوالدة ولدها .

وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " صهيب سابق الروم ، وسلمان سابق فارس ، وبلال سابق الحبشة " . وإنما نسبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للروم لما ذكر أنه نشأ فيهم صغيرا ، وتلقف لسانهم .

وقد تقدم ذكر نسبه .

وقال له عمر : ما لك يا صهيب تكنى أبا يحيى ، وليس لك ولد ، وتزعم أنك من العرب ، وتطعم الطعام الكثير ، وذلك سرف ؟ فقال : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كناني بأبي يحيى ، وإني من النمر بن قاسط من أنفسهم ، ولكني سبيت صغيرا أعقل أهلي وقومي ، ولو انفلقت عني روثة لانتميت إليها ، وأما إطعام الطعام ؟ فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " خياركم من أطعم الطعام ، ورد السلام " .

توفي صهيب بالمدينة سنة ثمان وثلاثين في شوالها ، وقيل : سنة تسع ، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة ، ودفن بالبقيع .

[ ص: 466 ] و (قوله -صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر رضي الله عنه : " لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك " ، يدل على رفعة منازل هؤلاء المذكورين عند الله تعالى ، ويستفاد منه احترام الصالحين ، واتقاء ما يغضبهم ، أو يؤذيهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية