المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
424 (16) باب

النهي أن يبال في الماء الراكد

وصب الماء على البول في المسجد

[ 217 ] عن أبي هريرة ; عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه .

رواه أحمد ( 4 \ 86 ) ، ومسلم ( 280 ) ، وأبو داود ( 74 ) ، والنسائي ( 1 \ 177 ) .


[ ص: 541 ] (16) ومن باب : النهي عن البول في الماء الراكد

(قوله : " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ") يعني به : الذي لا يجري . وقد جاء في لفظ آخر : " الراكد " أي : الساكن .

و (قوله : " ثم يغتسل منه ") الرواية الصحيحة : يغتسل برفع اللام ، ولا يجوز نصبها ; إذ لا ينتصب بإضمار أن بعد ثم . وبعض الناس قيده : " ثم يغتسل " مجزومة اللام على العطف على : " لا يبولن " ، وهذا ليس بشيء ; إذ لو أراد ذلك لقال : ثم لا يغتسلن ; لأنه إذ ذاك يكون عطف فعل على فعل ، لا عطف جملة على جملة ، وحينئذ يكون الأصل مساواة الفعلين في النهي عنهما ، وتأكيدهما بالنون الشديدة ، [ ص: 542 ] فإن المحل الذي توارد عليه هو شيء واحد ، وهو الماء ، فعدوله عن " ثم لا يغتسلن " إلى " ثم يغتسل " دليل على أنه لم يرد العطف ، وإنما جاء : " ثم يغتسل " على التنبيه على مآل الحال ، ومعناه : أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه ، فيمتنع عليه استعماله ، لما وقع فيه من البول ، وهذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يضرب أحدكم امرأته ضرب الأمة ثم يضاجعها " ، برفع يضاجعها ، ولم يروه أحد بالجزم ، ولا يتخيله فيه ; لأن المفهوم منه : أنه إنما نهاه عن ضربها ; لأنه يحتاج إلى مضاجعتها في ثاني حال ، فتمتنع عليه لما أساء من معاشرتها ، فيتعذر عليه المقصود لأجل الضرب ، وتقدير اللفظ : ثم هو يضاجعها ، وثم هو يغتسل .

وهذا الحديث حجة لمن رأى أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء ، وإن لم تغيره ، وهو أحد أقوال مالك ، ومشهور مذهبه في رواية المدنيين أنه طهور ، لكنه مكروه مع وجود غيره . ويصح أن يحمل هذا الحديث على أنه إذا أبيح البول فيه أدى إلى تغيره ، فحميت الذريعة بالنهي عن البول .

ومذهب السلف والخلف أنه لا فرق بين النهي عن البول فيه وبين صب بول فيه ، ولا بين البول والغائط ، وسائر النجاسات كلها . وذهب من أذهبه الله عن فهم الشريعة ، وأبقاه في درجة العوام ، وهو داود من المتقدمين ، وابن حزم من المتأخرين المجترئين : على أن ذلك مقصور على البول فيه خاصة ، فلو صب فيه بولا أو عذرة جاز ولم يضر ذلك الماء ، وكذلك لو بال خارج الماء فجرى إلى الماء لم يضره عندهما ، ولم يتناوله النهي ، ومن التزم هذه الفضائح وجمد هذا الجمود ، فحقيق ألا يعد من العلماء ، بل ولا في الوجود ، ولقد أحسن القاضي أبو بكر - رحمه الله - حيث قال : إن أهل [ ص: 543 ] الظاهر ليسوا من العلماء ، ولا من الفقهاء ، فلا يعتد بخلافهم ، بل هم من جملة العوام ، وعلى هذا جل الفقهاء والأصوليين . ومن اعتد بخلافهم ، إنما ذلك لأن من مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام ; فلا ينعقد الإجماع مع وجود خلافهم . والحق : أنه لا يعتبر إلا خلاف من له أهلية النظر والاجتهاد ، على ما يذكر في الأصول .

التالي السابق


الخدمات العلمية