المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4626 (2) باب ما يتقى من دعاء الأم

[ 2457 ] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت : يا جريج فقال : يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت : يا جريج فقال : يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته فقالت : يا جريج فقال : أي رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت : اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت : إن شئتم لأفتننه لكم. قال : فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت : هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال : ما شأنكم؟ قالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال : أين الصبي؟ فجاؤوا به فقال : دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، فقال : يا غلام من أبوك؟ قال : فلان الراعي، قال : فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب، قال : لا أعيدوها من طين، كما كانت، ففعلوا. وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمه : اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه فقال : اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع، فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فمه، فجعل يمصها، قال : ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون : زنيت سرقت وهي تقول : حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه : اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع، ونظر إليها فقال : اللهم اجعلني مثلها، فهناك تراجعا الحديث. فقالت : حلقى مر رجل حسن الهيئة فقلت : اللهم اجعل ابني مثله فقلت : اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها، ويقولون : زنيت سرقت فقلت : اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت : اللهم اجعلني مثلها، قال : إن ذاك الرجل كان جبارا فقلت : اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها : زنيت ولم تزن، سرقت ولم تسرق فقلت : اللهم اجعلني مثلها .

وفي رواية : فوصف أبو هريرة صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جريج حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه، فقالت : يا جريج أنا أمك كلمني فصادفته يصلي، فقال : اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فقالت في الثالثة : اللهم إن هذا جريج وهو ابني وإني كلمته، فأبى أن يكلمني، اللهم فلا تمته حتى تريه وجه المومسات، قال : ولو دعت عليه أن يفتتن لفتن ، وذكر نحو قصة جريج لا غير .

رواه أحمد (2 \ 307)، والبخاري (2482)، ومسلم (2550) (7 و 8).


ومن باب : ما يتقى من دعاء الأم

(قوله : " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ") المهد : أصله مصدر مهدت الشيء أمهده : إذا سويته وعدلته . فمهد الصبي : كل محل يسوى له ويوطأ ، وقد يكون سريره ، وقد يكون حجر أمه ، كما قال قتادة : في قوله تعالى : كيف نكلم من كان في المهد صبيا [مريم: 29] أي : في حجر أمه . وظاهر هذا الحصر يقتضي أن لا يوجد صغير تكلم في المهد إلا هؤلاء الثلاثة ، وهم : عيسى ، وصبي جريج ، والصبي المتعوذ من الجبار . وقد جاء من حديث صهيب المذكور في تفسير سورة البروج في قصة الأخدود : أن امرأة جيء بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي لها في - غير كتاب مسلم : يرضع - فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها [ ص: 512 ] الغلام : يا أمه ! اصبري ، فإنك على الحق . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إن شاهد يوسف كان صبيا في المهد ، وقال الضحاك : تكلم في المهد ستة : شاهد يوسف ، وصبي ماشطة امرأة فرعون وعيسى ، ويحيى ، وصاحب جريج ، وصاحب الأخدود .

قلت : فأسقط الضحاك صبي الجبار ، وذكر مكانه يحيى ، وعلى هذا فيكون المتكلمون في المهد سبعة ، فبطل الحصر بالثلاثة المذكورين في الحديث .

قلت : ويجاب عن ذلك : بأن الثلاثة المذكورين في الحديث هم الذين صح أنهم تكلموا في المهد ، ولم يختلف فيهم فيما علمت ، واختلف فيمن عداهم ، فقيل : إنهم كانوا كبارا بحيث يتكلمون ويعقلون ، وليس فيهم أصح من حديث صاحب الأخدود ، ولم تسلم صحة الجميع ، فيرتفع الإشكال بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما كان في علمه مما أوحي عليه في تلك الحال ، ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى بأشياء من ذلك ، فأخبرنا بذلك على ما في علمه .

و (قوله : " يا رب أمي وصلاتي ") قول يدل على : أن جريجا - رضي الله عنه - كان عابدا ، ولم يكن عالما ؟ إذ بأدنى فكرة يدرك أن صلاته كانت ندبا ، وإجابة أمه كانت عليه واجبة ، فلا تعارض يوجب إشكالا ، فكان يجب عليه تخفيف [ ص: 513 ] صلاته ، أو قطعها ، وإجابة أمه ، لا سيما وقد تكرر مجيئها إليه ، وتشوقها واحتياجها لمكالمته . وهذا كله يدل على تعين إجابته إياها ، ألا ترى أنه أغضبها بإعراضه عنها ، وإقباله على صلاته ؟ ويبعد اختلاف الشرائع في وجوب بر الوالدين . وعند ذلك دعت عليه ، فأجاب الله دعاءها تأديبا له ، وإظهارا لكرامتها ، والظاهر من هذا الدعاء أن هذه المرأة كانت فاضلة عالمة ، ألا ترى كيف تحرزت في دعائها فقالت : اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات ، فقالت : حتى ينظر ، ولم تقل غير ذلك ، وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث : ولو دعت عليه أن يفتن لفتن . وهي أيضا : لو كظمت غيظها وصبرت لكان ذلك الأولى بها ، لكن لما علم الله تعالى صدق حالهما لطف بهما ، وأظهر مكانتهما عنده بما أظهر من كرامتهما .

وفائدته : تأكد سعي الولد في إرضاء الأم ، واجتناب ما يغير قلبها ، واغتنام صالح دعوتها ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " الجنة تحت أقدام الأمهات " أي : من انتهى من التواضع لأمه بحيث لا يشق عليه أن يضع قدمها على خده استوجب بذلك الجنة ، والأولى في هذا الحديث أن يقال : أنه خرج مخرج المثل الذي يقصد به الإغياء في المبرة والإكرام ، وهو نحو من قوله صلى الله عليه وسلم : " الجنة تحت ظلال السيوف " .

والمومسات : جمع مومسة ، وهي الزانية .

[ ص: 514 ] و (قوله : " يا غلام من أبوك ؟ قال : فلان الراعي ") يتمسك به من قال : إن الزنى يحرم كما يحرم الوطء الحلال ، فلا تحل أم المزني بها ، ولا بناتها للزاني ، ولا تحل المزني بها لآباء الزاني ، ولا لأولاده . وهي رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة ، وفي الموطأ : أن الزنى لا يحرم حلالا . ويستدل به أيضا : أن المخلوقة من ماء الزاني لا تحل للزاني بأمها ، وهو المشهور ، وقد قال عبد الملك بن الماجشون : أنها تحل ، ووجه التمسك على تينك المسألتين : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني ، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك ، فقد صدق الله جريجا في تلك النسبة وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح لجريج وإظهار كرامته ، [ فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فثبتت البنوة ] وأحكامها . لا يقال : فيلزم على هذا أن تجري بسببهما أحكام البنوة والأبوة من التوارث ، والولايات ، وغير ذلك ، وقد اتفق المسلمون على : أنه لا توارث بينهما ، فلم تصح تلك النسبة ، لأنا نجيب عن ذلك بأن ذلك موجب ما ذكرناه ، وقد ظهر ذلك في الأم من الزنى ؟ فإن أحكام البنوة والأمومة جارية عليهما ، فما انعقد الإجماع عليه من الأحكام : أنه لا يجري بينهما استثنيناه ، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل . وفيها مباحث تستوفى في غير هذا الموضع - إن شاء الله تعالى - .

و (قوله : " نبني صومعتك من ذهب . قال : لا! إلا من طين كما كانت ") يدل [ ص: 515 ] على أن : من تعدى على جدار أو دار وجب عليه أن يعيده على حالته ، إذا انضبطت صفته ، وتمكنت مماثلته ، ولا تلزم قيمة ما تعدى عليه ، وقد بوب البخاري على حديث جريج هذا : من هدم حائطا بنى مثله ، وهو تصريح بما ذكرناه ، وهو مقتضى قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [البقرة: 194] فإن تعذرت المماثلة فالمرجع إلى القيمة ، وهو مذهب الكوفيين والشافعي ، وأبي ثور في الحائط ، وفي العتبية عن مالك مثله ، ومذهب أهل الظاهر في كل متلف هذا . ومشهور مذهب مالك وأصحابه ، وجماعة من العلماء : أن فيه وفي سائر المتلفات المضمونات القيمة ؟ إلا ما يرجع إلى الكيل والوزن ؟ بناء منهم على أنه : لا تتحقق المماثلة إلا فيهما .

والدابة الفارهة : الحسنة النجيبة ، والشارة : الهيئة المزينة التي يشار إليها من [ ص: 516 ] حسنها . وحلقى - غير مصروف - ، لأن ألفه للتأنيث كسكرى ، وهي كلمة جرت في كلامهم مجرى المثل ، وأصلها فيمن أصيب حلقها بوجع ، وقد تقدم : أن عقرى وحلقى : من الكلمات التي جرت على ألسنتهم في معرض الدعاء غير المقصود .

وأم هذا الصبي الرضيع نظرت إلى الصورة الظاهرة فاستحسنت صورة الرجل وهيئته ، فدعت لابنها بمثل هذا ، واستقبحت صورة الأمة وحالتها ، فدعت ألا يجعل ابنها في مثل حالتها ، فأراد الله تعالى بلطفه تنبيهها بأن أنطق لها ابنها الرضيع بما تجب مراعاته من الأحوال الباطنة ، والصفات القلبية . وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " ، وكما قال بعض حكماء الشعراء :


ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا     إن الجمال معادن
ومناقب أورثن مجدا

وهذا الصبي ظاهره أن الله تعالى خلق فيه عقلا وإدراكا كما يخلقه في الكبار عادة ، ففهم كما يفهمون ، ويكون خرق العادة في كونه خلق له ذلك قبل أوانه ، ويحتمل أن يكون أجرى الله ذلك الكلام على لسانه وهو لا يعقله ، كما خلق في الذراع والحصى كلاما له معنى صحيح ، مع مشاهدة تلك الأمور باقية على جمادتها ، كل ذلك ممكن ، والقدرة صالحة ، والله تعالى أعلم بالواقع منهما .

[ ص: 517 ] فأما عيسى - عليه السلام - فخلق الله له في مهده ما خلق للعقلاء والأنبياء ، في حال كمالهم من العقل الكامل ، والفهم الثاقب ، كما شهد له بذلك القرآن . وفي هذا الحديث ما يدل على صحة وقوع كرامات الأولياء ، وهذا قول جمهور - أهل السنة والعلماء ، وقد نسب لبعض العلماء إنكارها ، والظن بهم : أنهم ما أنكروا أصلها ، لتجويز العقل لها ، ولما وقع في الكتاب والسنة وأخبار صالحي هذه الأمة مما يدل على وقوعها ، وإنما محل الإنكار ادعاء وقوعها ممن ليس موصوفا بشروطها ، ولا هو أهل لها ، وادعاء كثرة وقوع ذلك دائما متكررا حتى يلزم عليه أن يرجع خرق العادة عادة ، وذلك إبطال لسنة الله ، وحسم السبل الموصلة إلى معرفة نبوة أنبياء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية