المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4650 [ 2471 ] وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره ، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرار - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام ، دمه، وماله، وعرضه" .

رواه مسلم (2564) (32).


و (قوله : " ولا تناجشوا ") قيل فيه : إنه من باب النجش في البيع الذي تقدم [ ص: 536 ] ذكره في البيوع . وفيه بعد ، لأن صيغة (تفاعل) أصلها لا تكون إلا من اثنين ، فـ (تناجش) لا يكون من واحد ، و (النجش) يكون من واحد ، فافترقا وإن كان أصلهما واحدا ، لأن أصل النجش : الاستخراج والإثارة . تقول : نجشت الصيد ، أنجشه ، نجشا : إذا استثرته من مكانه . وقيل : " لا تناجشوا " : لا ينافر بعضكم بعضا . أي : لا يعامله من القول بما ينفره ، كما ينفر الصيد ، بل يسكنه ويؤنسه ، كما قال : " سكنا ، ولا تنفرا " وهذا أحسن من الأول ، وأولى بمساق الحديث . والله تعالى أعلم .

و (قوله : " المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره ") . (يظلمه) : ينقصه حقه ، أو يمنعه إياه . و (يخذله) : يتركه لمن يظلمه ، ولا ينصره . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " فقال : كيف أنصره ظالما ؟ قال : " تكفه عن الظلم فذلك نصره " . و (يحقره) : ينظره بعين الاستصغار والقلة . وهذا إنما يصدر في الغالب عمن غلب عليه الكبر والجهل ، وذلك : أنه لا يصح له استصغار غيره حتى ينظر إلى نفسه بعين : أنه أكبر منه وأعظم ، وذلك جهل بنفسه ، وبحال المحتقر ، فقد يكون فيه ما يقتضي عكس ما وقع للمتكبر .

و (قوله : " التقوى هاهنا -ويشير بيده إلى صدره - ") وقد تقدم : أن التقوى مصدر (اتقى) : تقاة ، وتقوى . وأن التاء فيه بدل من الواو ، لأنه من الوقاية . والمتقي : هو الذي يجعل بينه وبين ما يخافه من المكروه وقاية تقيه منه ، ولذلك يقال : اتقى الطعنة بدرقته وبترسه . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، ولو [ ص: 537 ] بكلمة طيبة " أي : اجعلوا هذه الأمور وقاية بينكم وبين النار . وعلى هذا : فالمتقي شرعا هو الذي يخاف الله تعالى ، ويجعل بينه وبين عذابه وقاية من طاعته ، وحاجزا عن مخالفته . فإذا : أصل التقوى : الخوف ، والخوف إنما ينشأ عن المعرفة بجلال الله ، وعظمته ، وعظيم سلطانه ، وعقابه . والخوف والمعرفة محلهما القلب ، والقلب محله الصدر ، فلذلك أشار صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال : " التقوى هاهنا " والله تعالى أعلم .

والتقوى خصلة عظيمة ، وحالة شريفة آخذة بمجامع علوم الشريعة وأعمالها ، موصلة إلى خير الدنيا والآخرة . والكلام في التقوى وتفاصيلها ، وأحكامها ، وبيان ما يترتب عليها يستدعي تطويلا ، قد ذكره أرباب القلوب في كتبهم المطولة : كـ " الرعاية " ، و " الإحياء " ، و " سفينة النجاة " ، وغيرها .

و (قوله : " بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ") الباء في (بحسب) زائدة . وهو بإسكان السين ، لا بفتحها ، وهو خبر ابتداء مقدم ، والمبتدأ : (أن يحقر) تقديره : حسب امرئ من الشر احتقاره أخاه . أي : كافيه من الشر ذلك ؟ فإنه النصيب الأكبر ، والحظ الأوفى . ويفيد : أن احتقار المسلم حرام .

التالي السابق


الخدمات العلمية