المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
35 (8) باب

في قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت

[ 19 ] عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه ، قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد عنده أبا جهل ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ، ويعيد له تلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فأنزل الله عز وجل : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم [ التوبة : 113 ] ، وأنزل الله في أبي طالب ، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين [ القصص : 56 ] .

رواه البخاري ( 4675 ) ، ومسلم ( 24 ) ، والنسائي ( 4 \ 90 - 91 ) .


[ ص: 192 ] (8) ومن باب قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت

(قوله : " لما حضرت أبا طالب الوفاة ") أبو طالب هذا : هو ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، وهو عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ووالد علي بن أبي طالب ، واسمه : عبد مناف ، وقيل : اسمه كنيته ، والأول أصح ، واسم عبد المطلب : شيبة ، وكان يقال له : شيبة الحمد ، واسم هاشم : عمرو ، وهاشم لقب له ; لأنه أول من هشم الثريد لقومه . واسم عبد مناف : المغيرة ، واسم قصي : زيد ، وقيل له : مجمع ; لأنه جمع إليه قومه .

وكان والد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عبد الله قد توفي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمل في بطن أمه على الأصح ، فولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونشأ في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي ، فكفله عمه أبو طالب ، ولم يزل يحبه حبا شديدا ، ويحوطه ويحفظه إلى أن بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة ، فنصره أبو طالب وأعانه وأجاره ممن يريد به سوءا ، وقام دونه ، وعادى في حقه قريشا وجميع العرب ، إلى أن ناصبوه القتال وجاهروه بالعداوة والأذى ; وطلبوا أن يسلمه لهم ، فلم يفعل . ثم إن قريشا وجميع أهل مكة تعاقدوا فيما بينهم ، وتحالفوا على هجره وجميع بني هاشم ومقاطعتهم ، وعلى ألا يقاربوهم ، ولا يناكحوهم ، ولا يبايعوهم ، ولا يصلوهم بشيء من وجوه الرفق كلها ، حتى يسلموا إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة ، فانحاز أبو طالب وبنو هاشم في شعبهم ، وأقاموا على ذلك نحو ثلاث سنين في جهد جهيد ، وحال شديد ، إلى أن نقض الله أمر الصحيفة ، وأظهر أمر نبيه على ما هو مذكور في كتب [ ص: 193 ] السير . وكان أبو طالب يعرف صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يقوله ، ويقول لقريش : تعلمون والله أن محمدا لم يكذب قط ، ويقول لابنه علي : اتبعه ، فإنه على الحق . غير أنه لم يدخل في الإسلام ، ولم يتلفظ به ، ولم يزل على ذلك إلى أن حضرته الوفاة ، فدخل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طامعا في إسلامه ، وحريصا عليه ، باذلا في ذلك جهده ، مستفرغا ما عنده ، لكن عاقت عن ذلك عوائق الأقدار ، التي لا ينفع معها حرص ولا اقتدار .

و (قوله : " يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله ") أحسن ما تقيد به " كلمة " النصب ; على أن تكون بدلا من لا إله إلا الله ، ويجوز رفعها على إضمار المبتدأ . وأشهد : مجزوم على جواب الأمر ، أي : إن تقل أشهد .

وكل ذلك ترغيب وتذكير لأبي طالب ، وحرص على نجاته ، ويأبى الله إلا ما يريد .

و (قوله : " فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ، ويعيد له تلك المقالة ") هكذا هو في الأصول وعند أكثر الشيوخ ، ويعني بذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل على أبي طالب يعرض عليه الشهادة ، ويكررها عليه .

ووقع في بعض النسخ : ويعيدان له تلك المقالة ، ووجههما : أن أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية أعادا على أبي طالب قولهما له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! حتى أجابهما إلى ذلك .

و (قوله : " وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، أي : امتنع من قولها .

[ ص: 194 ] و (قوله : " يقولون : إنما حمله على ذلك الجزع ") بالجيم والزاي : صحيح الرواية ; لا يعرف في كتاب مسلم غيرها ، وهو بمعنى : الخوف من الموت .

وفي كتاب أبي عبيد : الخرع - بالخاء المعجمة والراء المهملة - وقال : يعني : الضعف والخور ، وكذلك قال ثعلب وفسره به ، قال شمر : يقال : جزع الرجل ; إذا ضعف ، وكل رخو ضعيف : خريع وخرع ، والخرع : الفصيل الضعيف ، قال : والخرع : الدهش . وفي " الصحاح " : الخرع ، بالتحريك : الرخاوة في الشيء ، وقد خرع الرجل ، بالكسر ، أي : ضعف ، فهو خرع ، ويقال لمشفر البعير إذا تدلى : خريع .

التالي السابق


الخدمات العلمية