المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4682 (15) باب النهي عن دعوى الجاهلية

[ 2492 ] عن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بال دعوى الجاهلية؟" قال : قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: "دعوها فإنها منتنة"، فسمعها عبد الله بن أبي، فقال: قد فعلوها والله ! لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" .

رواه أحمد ( 3 \ 338 )، والبخاري (3518)، ومسلم (2584) (63)، والترمذي (3315)، والنسائي في الكبرى (8863).


و (قوله صلى الله عليه وسلم لعمر حين قال : دعني أضرب عنق هذا المنافق : " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " ) دليل على : أن المنافقين الذين علم نفاقهم في [ ص: 562 ] عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مستحقين للقتل ، لكن امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ؛ لئلا يكون قتلهم منفرا لغيرهم عن الدخول في الإسلام ، لأن العرب كانوا أهل أنفة وكبر بحيث لو قتل النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء المنافقين لنفر من بعد عنهم ، فيمتنع من الدخول في الدين ، وقالوا : هو يقتل أصحابه ، ولغضب من قرب من هؤلاء المنافقين ، فتهيج الحروب وتكثر الفتن ، ويمتنع من الدخول في الدين ، وهو نقيض المقصود ، فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم ، ورفق بهم ، وصبر على جفائهم وأذاهم ، وأحسن إليهم حتى انشرح صدر من أراد الله هدايته ، فرسخ في قلبه الإيمان ، وتبين له الحق اليقين .

وهلك عن بينة من أراد الله هلاكه ، وكان من الخاسرين . ثم أقام النبي صلى الله عليه وسلم مستصحبا لذلك إلى أن توفاه الله تعالى ، فذهب النفاق وحكمه ، لأنه ارتفع مسماه واسمه . ولذلك قال مالك : النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة عندنا اليوم ، ويظهر من مذهبه : أن ذلك الحكم منسوخ بقوله تعالى : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض إلى قوله تعالى : وقتلوا تقتيلا [الأحزاب: 60 - 61] وبقوله : جاهد الكفار والمنافقين [التوبة: 73] فقد سوى بينهما في الأمر بالجهاد ، وجهاد الكفار : قتالهم وقتلهم ، فليكن جهاد المنافقين كذلك .

وفي الآيتين مباحث ليس هذا موضعها ، وقد ذهب غير واحد من أئمتنا إلى أن المنافقين يعفى عنهم ما لم يظهروا نفاقهم ؛ فإن أظهروه قتلوا ، وهذا أيضا يخالف ما جرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن منهم من أظهر نفاقه ، واشتهر عنه حتى عرف به ، والله أعلم بنفاقه ، ومع ذلك لم يقتلوا لما ذكرناه ، والله تعالى أعلم .

[ ص: 563 ] وقد وضح من هذا الحديث إبطال قول من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين ، لأنه لم تقم بينة معتبرة بنفاقهم ؛ إذ قد نص فيه على المانع من ذلك ، وهو غير ما قالوه . وفيه ما يدل على أن أهون الشرين يجوز العمل على مقتضاه إذا اندفع به الشر الأعظم . وفيه دليل على القول بصحة الذرائع ، وعلى تعليل نفي الأحكام في بعض الصور بمناسب لذلك النفي .

التالي السابق


الخدمات العلمية