المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4688 (17) باب تحريم السباب والغيبة ومن تجوز غيبته

[ 2495 ] عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم" .

رواه أحمد ( 2 \ 235 )، ومسلم (2587)، وأبو داود (4894)، والترمذي (1981).


[ ص: 566 ] (17) ومن باب : تحريم السباب والغيبة

(قوله : " المستبان ما قالا ، فعلى الأول ما لم يعتد المظلوم ") المستبان : تثنية مستب من السب ، وهو الشتم والذم ، وهما مرفوعان بالابتداء ، و (ما) موصولة ، وهي في موضع رفع بالابتداء أيضا ، وصلتها : قالا ، والعائد محذوف ، تقديره : قالاه ، و (على الأول) خبر ما ، ودخلت الفاء على الخبر لما تضمنه الاسم الموصول من معنى الشرط ، نحو قوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله [النحل: 53] وما وخبرها : خبر المبتدأ الأول الذي هو المستبان . ومعنى الكلام : أن المبتدئ بالسب هو المختص بإثم السب ، لأنه ظالم به ؛ إذ هو مبتدئ من غير سب ولا استحقاق ، والثاني منتصر فلا إثم عليه ، ولا جناح ، لقوله تعالى : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [الشورى: 41] لكن السب المنتصر به - وإن كان [ ص: 567 ] مباحا للمنتصر - فعليه إثم من حيث هو سب ، لكنه عائد إلى الجاني الأول ، لأنه هو الذي أحوج المنتصر إليه وتسبب فيه ، فيرجع إثمه عليه ، ويسلم المنتصر من الإثم ، لأن الشرع قد رفع عنه الإثم والمؤاخذة ، لكن ما لم يكن من المنتصر عدوان إلى ما لا يجوز له ، كما قال : " ما لم يعتد المظلوم " أي : ما لم يجاوز ما سب به إلى غيره ، إما بزيادة سب آخر أو بتكرار مثل ذلك السب ، وذلك أن المباح في الانتصار : أن يرد مثل ما قال الجاني ، أو يقاربه ، لأنه قصاص ، فلو قال له : يا كلب - مثلا - فالانتصار أن يرد عليه بقوله : بل هو الكلب ، فلو كرر هذا اللفظ مرتين أو ثلاثا لكان متعديا بالزائد على الواحدة ، فله الأولى ، وعليه إثم الثانية ، وكذلك لو رد عليه بأفحش من الأولى ، فيقول له : خنزير - مثلا - كان كل واحد منهما مأثوما ، لأن كلا منهما جاز على الآخر ، وهذا كله مقتضى قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [البقرة: 194] و قوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها [الشورى: 40]، وكل ما ذكرناه من جواز الانتصار إنما هو فيما إذا لم يكن القول كذبا أو بهتانا ، فلا يجوز أن يتكلم بذلك لا ابتداء ولا قصاصا ، وكذلك لو كان قذفا ، فلو رده كان كل واحد منهما قاذفا للآخر ، وكذلك لو سب المبتدئ أبا المسبوب أو جده ، لم يجز له أن يرد ذلك ، لأنه سب لمن لم يجن عليه ، فيكون الرد عدوانا لا قصاصا . قال بعض علمائنا : إنما يجوز الانتصار فيما إذا كان السب مما يجوز سب المرء به عند التأديب كالأحمق ، والجاهل ، والظالم ، لأن أحدا لا ينفك عن بعض هذه الصفات إلا الأنبياء والأولياء ، فهذا إذا كافأه بسبه فلا حرج عليه ولا إثم ، وبقي الإثم على الأول بابتدائه وتعرضه لذلك .

تنبيه : ظاهر قوله تعالى : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [الشورى: 41] أن الانتصار مباح ، وعلى ذلك يدل الحديث المذكور ، لكن قوله تعالى : والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون [الشورى: 39] مدح من الله تعالى للمنتصر ، والمباح لا يمدح عليه، فاختلف العلماء في ذلك ، فقال السدي : إنما [ ص: 568 ] مدح الله من انتصر ممن بغي عليه من غير زيادة على مقدار ما فعل به ، يعني : أنه إنما مدح من حيث إنه اتقى الله في انتصاره ، إذا أوقعه على الوجه المشروع ، ولم يفعل ما كانت الجاهلية تفعل من الزيادة على الجناية . وقال غيره : إنما مدح الله من انتصر من الظالم الباغي المعلن بظلمه الذي يعم ضرره ، فالانتقام منه أفضل ، والانتصار عليه أولى . قال معناه إبراهيم النخعي ، ولا خفاء في أن العفو عن الجناة وإسقاط المطالبة عنهم بالحقوق ، مندوب إليه ، مرغب فيه على الجملة ، لقوله تعالى : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى: 43] ولقوله : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [الشورى: 40] وقوله : وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم [النور: 22] وقوله : وأن تعفوا أقرب للتقوى [البقرة: 237] ولقوله صلى الله عليه وسلم : " ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا " ، وقوله : " تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك " ونحوه كثير ، ومع ذلك فاختلف العلماء في المحاللة من الحقوق ، فقال سعيد بن المسيب : لا أحلل أحدا . وظاهره : أنه كان لا يجيز أن يعفو عن حق وجب له ، ولا يسقطه ، ولم يفرق بين الظالم ولا غيره ، وهذا هو الذي فهمه مالك عنه .

وذهب غيره إلى أنه تجوز المحاللة من جميع الحقوق وإسقاطها ، وإليه ذهب محمد بن سيرين ، والقاسم بن محمد ، كان يحلل من ظلمه ، ويكره لنفسه الخصوم . وفرق آخرون بين الظالم ، فلم يحللوه ، وبين غيره فحللوه ، وإليه ذهب إبراهيم النخعي ، وهو ظاهر قول مالك ، وقد سئل فقيل له : أرأيت الرجل يموت ، ولك عليه دين ، ولا وفاء له به ؟ قال : أفضل عندي أن أحلله ، وأما الرجل يظلم الرجل فلا أرى ذلك . قال الله عز وجل : إنما السبيل على الذين يظلمون الناس [الشورى: 42] فظاهر هذا : أن [ ص: 569 ] الظالم لا يجوز أن يحلل ، ولم يفرق بين الحقوق ، فيكون مذهبه كمذهب النخعي المتقدم ، غير أنه قد روي قول مالك هذا بلفظ آخر ، فقال : أما الرجل يغتاب الرجل ، وينتقصه ، فلا أرى ذلك ، ففهم بعض أصحابنا من هذا : أن ترك المحاللة إنما منعه في الأعراض خاصة ، وأما في سائر الحقوق فيجوز ، وسبب هذا الخلاف : هل تلك الأدلة مبقاة على ظواهرها من التعميم ، أو هي مخصصة فيخرج منها الظالم؟ ، لأن تحليله من المظالم يجرئه على الإكثار منها ، وهو ممنوع بالإجماع ، ثم ذلك عون له على الإثم والعدوان ، وقد قال تعالى : ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [المائدة: 2] وأما الفرق بين الأعراض وغيرها فمبالغة في سد ذريعة الأعراض ليسارتها وتساهل الناس في أمرها ، فاقتضى ذلك المبالغة في الردع عنها ، فإذا علم الذي يريد أن يغتاب مسلما أن الغيبة وأعراض المسلمين لا يعفى عنها ، ولا يخرج منها ، امتنع من الوقوع فيها .

قلت : ويرد على هذه التخصيصات سؤالات يطول الكلام بإيرادها والانفصال عنها ، والتمسك بالعموم هو الأصل المعلوم ، لاسيما مع قوله صلى الله عليه وسلم : " أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم ، كان إذا أصبح يقول : اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك " ومع الأصل الكلي في حقوق بني آدم من جواز تصرفهم فيها بالإعطاء والمنع ، والأخذ والإسقاط ، والله تعالى أعلم .

تفريع : القائلون بجواز التحلل وإسقاط الحقوق اختلفوا : هل تسقط عن الظالم مطالبة الآدمي فقط ، ولا تسقط عنه مطالبة الله عز وجل ؟ أو يسقط عنه الجميع ؟ لأهل العلم فيه قولان .

التالي السابق


الخدمات العلمية