المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4690 [ 2496 ] وعنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته" .

رواه أحمد ( 2 \ 230 )، ومسلم (2589)، وأبو داود (4874)، والترمذي (1934).


و (قوله : " أتدرون ما الغيبة ؟ ") كأن هذا السؤال صدر عنه بعد أن جرى ذكر [ ص: 570 ] الغيبة ، ولا يبعد أن يكون ذلك بعد نزول قوله تعالى : ولا يغتب بعضكم بعضا [الحجرات: 12] ففسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الغيبة المنهي عنها . ووزنها فعلة ، وهي مأخوذة من الغيبة - بفتح الغين - مصدر غاب ، لأنها ذكر الرجل في حال غيبته بما يكرهه لو سمعه . يقال من ذلك المعنى : اغتاب فلان فلانا ، يغتابه اغتيابا ، واسم ذلك المعنى : الغيبة ، ولا شك في أنها محرمة وكبيرة من الكبائر ، بالكتاب والسنة ، فالكتاب : قوله تعالى : ولا يغتب بعضكم بعضا الآية ، وأما السنة فكثيرة ، من أنصها ما خرجه أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم " ، وفي كتابه من حديث أنس عنه صلى الله عليه وسلم ، قال : " مررت ليلة أسري بي بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم " .

وإذا تقررت حقيقة الغيبة وأن أصلها على التحريم ، فاعلم أنها قد تخرج عن ذلك الأصل صور ، فتجوز الغيبة في بعضها ، وتجب في بعضها ، ويندب إليها في بعضها : فالأولى كغيبة المعلن بالفسق المعروف به ، فيجوز ذكره بفسقه لا بغيره ، مما يكون مشهورا به ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " بئس أخو العشيرة " كما يأتي ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا غيبة في فاسق " ، ولقوله : " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " . والثاني : [ ص: 571 ] جرح شاهد عند خوف إمضاء الحكم بشهادته ، وجرح المحدث الذي يخاف أن يعمل بحديثه ، أو يروى عنه ، وهذه أمور ضرورية في الدين ، معمول بها ، مجمع من السلف الصالح عليها .

ونحو ذلك : ذكر عيب من استنصحت في مصاهرته أو معاملته ، فهذا يجب عليك الإعلام بما تعلم من هناته عند الحاجة إلى ذلك ، على جهة الإخبار ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما معاوية فصعلوك لا مال له ، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " .

وقد يكون من هذين النوعين ما لا يجب ، بل يندب إليه ، كفعل المحدثين حين يعرفون بالضعفاء مخافة الاغترار بحديثهم ، وكتحريز من لم يسأل مخافة معاملة من حاله تجهل ، وحيث حكمنا بوجوب النص على الغيب ، فإنما ذلك إذا لم نجد بدا من التصريح والتنصيص ، فأما لو أغنى التعريض والتلويح ، لحرم التنصيص والتصريح ؛ فإن ذلك أمر ضروري ، والضروري يقدر بقدر الحاجة ، والله تعالى أعلم .

و (قوله : " وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ") هو بتخفيف الهاء وتشديد التاء ، لإدغام تاء المخاطب في التاء التي هي لام الفعل ، وكذلك رويته ، ويجوز أن تكون مخففة على إسقاط تاء الخطاب ، يقال : بهته بهتا وبهتا وبهتانا ، أي : قال عليه ما لم يقل ، وهو بهات ، والمقول مبهوت ، ويقال : بهت الرجل - بالكسر - إذا دهش وتحير ، وبهت - بالضم - مثله ، وأفصح منها : بهت ، كما قال تعالى : فبهت الذي كفر [البقرة: 258] لأنه يقال : رجل مبهوت ، ولا يقال : باهت ، ولا بهيت . قاله الكسائي .

التالي السابق


الخدمات العلمية