المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4695 4698 4697 (19) باب الحث على الرفق ومن حرمه حرم الخير

[ 2500 ] عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا عائشة ، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه .

رواه مسلم (2593).

[ 2501 ] وعنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" .

زاد في رواية: أن عائشة ركبت بعيرا، فكانت فيه صعوبة، فجعلت تردده، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليك بالرفق ... فإن الرفق ..." على نحو ما تقدم .

رواه أحمد (6 \ 112 و 125)، ومسلم (2594) (78 و 79) ، وأبو داود (2478).

[ 2502 ] وعن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يحرم الرفق يحرم الخير" .

رواه أحمد ( 4 \ 366 )، ومسلم (2592) (74 - 75)، وأبو داود (4809)، وابن ماجه (3687) وقد جاء في الأصول : عن جابر بدل عن جرير.


[ ص: 576 ] و (قوله : " إن الله رفيق يحب الرفق ") قد تقرر في غير موضع : أن العلماء اختلفوا في أسماء الله تعالى ، هل الأصل فيها التوقيف ، فلا يسمى إلا بما سمى به نفسه في كتابه ، أو على لسان رسوله ، أو بجمع الأمة عليه ، أو : الأصل جواز تسميته تعالى بكل اسم حسن ، إلا أن يمنع منه مانع شرعي ؟ الأول لأبي حسن ، والثاني : للقاضي أبي بكر . ومثار الخلاف : هل الألف واللام في قوله تعالى : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [الأعراف: 180] للجنس ، أو للعهد ؟ ثم إذا تنزلنا على رأي الشيخ أبي الحسن ، هل نقتبس أسماءه تعالى من أخبار الآحاد ، أو لا ؟ اختلف المتأخرون من الأشعرية في ذلك على قولين ، والصحيح قبول أخبار الآحاد في ذلك ، لأن إطلاق الأسماء على الله تعالى حكم شرعي عملي ، فيكتفى فيه بخبر الواحد والظواهر ، كسائر الأحكام العملية ، فأما معنى الاسم فإن شهد باتصاف الحق به قاطع عقلي ، أو سمعي ، وجب قبوله وعلمه ، وإلا لم يجب . ثم هل يكتفى في كون الكلمة اسما من أسماء الله تعالى بوجودها في كلام الشارع من غير تكرار ولا كثرة ، أم لا بد منهما ؟ فيه رأيان ، وقد سبق القول في ذلك .

والرفيق : هو الكثير الرفق ، وهو اللين ، والتسهيل ، وضده العنف ، والتشديد والتصعيب ، وقد يجيء الرفق بمعنى الإرفاق ، وهو : إعطاء ما يرتفق به ، قال أبو زيد : يقال : رفقت به ، وأرفقته ، بمعنى : نفعته ، وكلاهما صحيح في حق الله تعالى ؛ إذ هو [ ص: 577 ] الميسر والمسهل لأسباب الخير والمنافع كلها ، والمعطي لها ، فلا تيسير إلا بتيسيره ، ولا منفعة إلا بإعطائه وتقديره . وقد يجيء الرفق أيضا بمعنى : التمهل في الأمر والتأني فيه ، يقال منه : رفقت الدابة أرفقها رفقا : إذا شددت عضدها بحبل لتبطئ في مشيها ، وعلى هذا فيكون الرفيق في حق الله تعالى بمعنى : الحليم ؛ فإنه لا يعجل بعقوبة العصاة ، بل يمهل ليتوب من سبقت له السعادة ، ويزداد إثما من سبقت له الشقاوة ، وهذا المعنى أليق بالحديث ؛ فإنه السبب الذي أخرجه . وذلك أن اليهود سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليك ، ففهمتهم عائشة - رضي الله عنها - فقالت : بل عليكم السام واللعنة . فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث .

و (قوله : " إن الله رفيق يحب الرفق ") أي : يأمر به ، ويحض عليه ، وقد تقدم أن حب الله للطاعة شرعه لها ، وترغيبه فيها ، وحب الله لمن أحبه من عباده : إكرامه له .

و (قوله : " ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف ") ويقال بفتح العين [ ص: 578 ] وضمها ، معناه : إن الله تعالى يعطي عليه في الدنيا من الثناء الجميل ، وفي الآخرة من الثواب الجزيل ما لا يعطي على العنف الجائز .

وبيان هذا بأن يكون أمر ما من الأمور سوغ الشرع أن يتوصل إليه بالرفق وبالعنف ، فسلوك طريق الرفق أولى لما يحصل عليه من الثناء على فاعله بحسن الخلق ، ولما يترتب عليه من حسن الأعمال ، وكمال منفعتها ، ولهذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله : " ما كان الرفق في شيء إلا زانه " . وضده الخرق والاستعجال ، وهو مفسد للأعمال ، وموجب لسوء الأحدوثة ، وهو المعبر عنه بقوله : " ولا نزع من شيء إلا شانه " . أي : عابه ، وكان له شينا . وأما الخرق والعنف : فمفوتان مصالح الدنيا ، وقد يفضيان إلى تفويت ثواب الآخرة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " من يحرم الرفق يحرم الخير " . أي : يفضي ذلك به إلى أن يحرم خير الدنيا والآخرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية