المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4707 [ 2509 ] وعن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر ، فأي المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته ، فاجعلها له صلاة وزكاة".

وفي رواية: "ورحمة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة" .

وفي رواية: "اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر"، وفيها : "فاجعلها له كفارة، وقربة تقربه بها"، وذكره . قال أبو الزناد : جلده لغة أبي هريرة.

رواه أحمد ( 2 \ 316 )، والبخاري (6361)، ومسلم (2601) (89 و 90 و 91).


و (قوله : لمن أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان ) هذا الكلام من السهل الممتنع ، وذلك أن معناه أن هذين الرجلين ما أصابا منك خيرا ، وإن كان غيرهما قد أصابه ، لكن تنزيل هذا المعنى على أفراد ذلك الكلام فيه صعوبة ، ووجه التنزيل يتبين بالإعراب ، وهو أن اللام في : لمن ، هي لام الابتداء ، وهي متضمنة للقسم ، ومن : موصولة في موضع رفع بالابتداء ، وصلتها : أصاب ، وعائدها : المضمر في أصاب ، وما بعدها متعلق به ، وخبره محذوف ، تقديره : والله لرجل أصاب منك خيرا : فائز أو ناج . ثم نفى عن هذين الرجلين إصابة ذلك الخير بقوله : ما أصابه هذان ، ولا يصح أن يكون (ما أصابه) خبرا لـ (من) المبتدأ ، لخلوها عن عائد يعود على نفس المبتدأ ، وأما الضمير في (أصابه) فهو للخير ، لا لمن ، فتأمله يصح لك ما قلناه ، والله تعالى أعلم .

و (قوله : " اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر ، فأي المسلمين لعنته أو سببته أو جلدته ، فاجعل ذلك له كفارة ورحمة ") ظاهر هذا أنه خاف أن [ ص: 584 ] يصدر عنه في حال غضبه شيء من تلك الأمور ، فيتعلق به حق مسلم ، فدعا الله تعالى ، ورغب إليه في أنه : إن وقع منه شيء من ذلك لغير مستحق في ألا يفعل بالمدعو عليه مقتضى ظاهر ذلك الدعاء ، وأن يعوضه من ذلك مغفرة لذنوبه ورفعة في درجاته ، فأجاب الله تعالى طلبة نبيه صلى الله عليه وسلم ووعده بذلك ، فلزم ذلك بوعده الصدق وقوله الحق ، وعن هذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " شارطت ربي " ، و " شرط علي ربي " ، و " اتخذت عنده عهدا لن يخلفنيه " لا أن الله تعالى يشترط عليه شرط ، ولا يجب عليه لأحد حق ، بل ذلك كله بمقتضى فضله وكرمه على حسب ما سبق في علمه .

فإن قيل : فكيف يجوز أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم لعن أو سب ، أو جلد لغير مستحقه ، وهو معصوم من مثل ذلك في الغضب والرضا ؛ لأن كل ذلك محرم وكبيرة ، والأنبياء معصومون عن الكبائر ، إما بدليل العقل ، أو بدليل الإجماع ، كما تقدم .

قلت : قد أشكل هذا على العلماء ، وراموا التخلص من ذلك بأوجه متعددة ، أوضحها وجه واحد ، وهو : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يغضب لما يرى من المغضوب عليه من مخالفة الشرع ، فغضبه لله تعالى لا لنفسه ، فإنه ما كان يغضب لنفسه ولا ينتقم لها ، وقد قررنا في الأصول : أن الظاهر من غضبه تحريم الفعل المغضوب من أجله . وعلى هذا فيجوز له أن يؤدب المخالف له باللعن والسب والجلد والدعاء عليه بالمكروه ، وذلك بحسب مخالفة المخالف ، غير أن ذلك المخالف قد يكون ما صدر منه فلتة أوجبتها غفلة ، أو غلبة نفس ، أو شيطان ، وله فيما بينه وبين الله تعالى عمل خالص ، وحال صادق ، يدفع الله عنه بسبب ذلك أثر ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم له من ذلك القول أو الفعل . وعن هذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل ، أن تجعلها له طهورا ، [ ص: 585 ] وزكاة ، وقربة تقربه بها يوم القيامة " أي : عوضه من تلك الدعوة بذلك ، والله تعالى أعلم .

قلت : وقد يدخل في قوله : أيما أحد من أمتي دعوت عليه : الدعوات الجارية على اللسان من غير قصد للوقوع ، كقوله : " تربت يمينك " و " عقرى حلقى " . ومن هذا النوع قوله لليتيمة : " لا كبر سنك " ، فإن هذه لم تكن عن غضب ، وهذه عادة غالبة في العرب يصلون كلامهم بهذه الدعوات ، ويجعلونها دعاما لكلامهم من غير قصد منهم لمعانيها ، وقد قدمنا في كتاب الطهارة في هذا كلاما للبديع ، وهو من القول البديع . وبما ذكرناه يرتفع الإشكال ويحصل الانفصال .

ووجه لغة أبي هريرة في : جلده : أنه قلب التاء دالا لقرب [ ص: 586 ] مخرجهما ، ثم أدغم التاء في الدال ، وهي على عكس اللغة المشهورة ، فإنهم فيها قلبوا الدال تاء ، وأدغموا الدال في التاء ، وهو الأولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية