المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
436 [ 223 ] وعن سليمان بن يسار ; قال : أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب . وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه .

رواه البخاري ( 230 ) ، ومسلم ( 289 ) ، وأبو داود ( 373 ) ، والترمذي ( 117 ) ، والنسائي ( 1 \ 156 ) ، وابن ماجه ( 536 ) .


[ ص: 548 ] (18) ومن باب : غسل المني

(قولها : " إنما كان يجزئك أن رأيته أن تغسل مكانه ") يجزئك : يكفيك ، وأن رأيته بفتح الهمزة روايتنا ، ووجهها : أنها مفعولة بإسقاط حرف الجر ، تقديره : لأن رأيته ، أو : من أجل ، وهي مع الفعل بتأويل المصدر ، وكذلك : أن تغسل مكانه ، مفتوحة أيضا على تأويل المصدر ، وهو الفاعل بيجزئك . وهذا من عائشة يدل : على أن المني نجس ، وأنه لا يجزئ فيه إلا غسله ، فإنها قالت : " إنما " وهي من حروف الحصر ، ويؤيد هذا ويوضحه قولها : " فإن لم تر نضحت حوله " . فإن النضح إنما مشروعيته حيث تحققت النجاسة ، وشك في الإصابة ; كما قال عمر بن [ ص: 549 ] الخطاب - رضي الله عنه - ، حيث أصبح يغسل جنابة من ثوبه ، فقال : " أغسل ما رأيت ، وأنضح ما لم أر " .

وهذا مذهب السلف وجمهور العلماء . وذهب الشافعي وكثير من المحدثين : إلى أنه طاهر ; متمسكين بقول عائشة : " لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركا فيصلي فيه " ، وبقولها : " ولقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يابسا بظفري " ، وهذا لا حجة فيه لوجهين :

أحدهما : أنها إنما ذكرت ذلك محتجة به على فتياها ، بأنه لا يجزئ فيه إلا الغسل فيما رؤي منه ، والنضح فيما لم ير ، ولا تتقرر حجتها إلا بأن تكون فركته وحكته بالماء ، وإلا ناقض دليلها فتياها .

وثانيهما : أنها قد نصت في الطريق الأخرى : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل المني ، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب ، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه " . لا يقال : كان غسله إياه مبالغة في النظافة ; لأنا نقول : الظاهر من غسله للصلاة وانتظار جفافه وخروجه إليها وفي ثوبه بقع الماء ; أن ذلك إنما كان لأجل نجاسته ، وأيضا : فإن مناسبة الغسل للنجاسة أصلية ; إذ هي المأمور بغسلها ، فحمل الغسل على قصد النجاسة أولى ، ألا ترى أن الشافعية استدلوا على نجاسة الكلب بالأمر بغسل الإناء منه ، ولم يعرجوا على احتمال كونه للنظافة ، وكذلك نقول نحن في [ ص: 550 ] غسل المني ، ثم نقول : هب أن هذا الغسل يحتمل أن يكون للنجاسة ، ويحتمل أن يكون للنظافة ، وحينئذ يكون مجملا لا يستدل به لا على طهارته ، ولا على نجاسته ، لكنا عندنا ما يدل على نجاسته ، وهو أنه يمر في ممر البول ، ثم يخرج فيتنجس بالمرور في المحل النجس ، وهذا لا جواب عنه على أصل الشافعية عند الإنصاف .

قالوا : بول النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر فضلاته طاهر طيب ، قلنا : لم يصح عند علمائنا في هذا شيء ، والأصل : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واحد من البشر ، وهو مساو لسائر المكلفين في الأحكام ، إلا ما ثبت فيه دليل خصوصيته ، سلمنا ذلك ، لكن فغيره يكون منيه نجسا بالمرور على ما ذكرنا ، فإن قالوا : المني أصل لخلق الإنسان فيكون طاهرا كالتراب ، قلبناه عليهم ، فقلنا : المني أصل لخلق الإنسان فيكون نجسا كالعلقة . فإن قالوا كيف يكون نجسا وقد خلق منه الأنبياء والأولياء ؟ قلنا : وكيف يكون طاهرا وقد خلق منه الكفرة والضلال والأشقياء ، فبالذي ينفصلون به ننفصل .

التالي السابق


الخدمات العلمية