المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
439 (19) باب

في الاستبراء من البول والتستر

وما يقول إذا دخل الخلاء

[ 225 ] عن ابن عباس ; قال : مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبرين . فقال : أما إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير . أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة . وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله ، قال : فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين . ثم غرس على هذا واحدا ، وعلى هذا واحدا . ثم قال : لعله أن يخفف عنهما ، ما لم ييبسا .

وفي رواية : وكان الآخر لا يستنزه عن البول أو من البول .

رواه البخاري ( 1378 ) ، ومسلم ( 292 ) ، وأبو داود ( 20 و 21 ) ، والترمذي ( 70 ) ، والنسائي ( 1 \ 28 - 30 ) .


(19) ومن باب الاستبراء من البول

(قوله : " وما يعذبان في كبير ") أي : عندكم ، وهو عند الله كبير ، كما جاء في البخاري : " وإنه لكبير " أي : عند الله ، وهذا مثل قوله تعالى : وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم [ النور : 15 ] ، وقد تقدم الكلام على النمام في الإيمان . والنميمة : هي القالة التي ترفع عن قائلها ليتضرر بها قائلها .

[ ص: 552 ] و (قوله : " وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله ") أي : لا يجعل بينه وبين بوله سترة حتى يتحفظ منه ، كما قال في الرواية الأخرى : " لا يستنزه عن البول " أي : لا يتباعد منه . وهذا يدل على أن القليل من البول ومن سائر النجاسات والكثير منه سواء ، وهو مذهب مالك وعامة الفقهاء ، ولم يخففوا في شيء من ذلك إلا في اليسير من دم غير الحيض خاصة .

واختلف أصحابنا في مقدار اليسير ، فقيل : هو قدر الدرهم البغلي . وقيل : قدر الخنصر ، وجعل أبو حنيفة قدر الدرهم من كل نجاسة معفو عنه ، قياسا على المخرجين ، وقال الثوري : كانوا يرخصون في القليل من البول ، ورخص الكوفيون في مثل رؤوس الإبر من البول .

وفيه دليل على أن إزالة النجاسة واجبة متعينة ، وكذلك في قوله : " استنزهوا من البول ، فإن عامة عذاب القبر منه " . وقد تخيل الشافعي في لفظ البول العموم ، فتمسك به في نجاسة جميع الأبوال ، وإن كان بول ما يؤكل لحمه . وقد لا يسلم له أن الاسم المفرد للعموم ، ولو سلم ذلك ، فذلك إذا لم يقترن به قرينة عهد ، وقد اقترنت هاهنا ، ولئن سلم له ذلك فدليل تخصيصه حديث إباحة شرب أبوال الإبل للعرنيين ، وإباحة الصلاة في مرابض الغنم ، وطوافه - عليه الصلاة والسلام - على بعير ، وسيأتي .

و (قوله : " فدعا بعسيب رطب ") العسيب من النخل : كالقضيب مما سواها ، والرطب : الأخضر .

و (قوله : " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ") اختلف العلماء في تأويل هذا [ ص: 553 ] الفعل ، فمنهم من قال : أوحي إليه أنه يخفف عنهما ما داما رطبين ، وهذا فيه بعد ; لقوله : " لعله " ، ولو أوحي إليه لما احتاج إلى الترجي . وقيل : لأنهما ما داما رطبين يسبحان ، فإن رطوبتهما حياتهما ، وأخذ من هذا التأويل جواز القراءة والذكر على القبور .

وقيل : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شفع لهما ، ودعا بأن يخفف عنهما ، ما داما رطبين ، وقد دل على هذا حديث جابر الذي يأتي في آخر الكتاب في حديث القبرين ، قال فيه : " فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ذلك ، ما دام القضيبان رطبين ، فإن كانت القضية واحدة - وهو الظاهر - فلا مزيد على هذا في البيان .

التالي السابق


الخدمات العلمية