المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4795 (6) باب محاجة آدم موسى عليهما السلام

[ 2579 ] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احتج آدم وموسى عند ربهما ، فحج آدم موسى ، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض؛ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاما . قال آدم: فهل وجدت فيها: وعصى آدم ربه فغوى [طه: 121] قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فحج آدم موسى" .

رواه أحمد ( 2 \ 264 )، والبخاري (3409)، ومسلم (2652) (15)، والترمذي (2134).


[ ص: 665 ] (6) ومن باب : محاجة آدم وموسى ، عليهما السلام

(قوله : " احتج آدم وموسى عند ربهما ") ظاهر هذا اللفظ ، وهذه المحاجة أنهما التقيا بأشخاصهما ، وهذا كما قررناه فيما تقدم في الأنبياء من إحيائهم بعد الموت كالشهداء ، بل هم أولى بذلك ، ويجوز أن يكون ذلك لقاء أرواح ، وقد قال بكل قول منهما طائفة من علمائنا ، وهذه العندية عندية اختصاص وتشريف ، لا عندية مكان ، فإنه تعالى منزه عن المكان والزمان ، وإنما هي كما قال تعالى : إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر [القمر: 54 - 55] أي : في محل التشريف والإكرام والاختصاص . وروى هذا الحديث بعضهم ، وزاد فيه : إن هذا اللقاء كان بعد أن سأل موسى ، فقال : يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة ، فأراه الله إياه ، فقال : أنت آدم ؟ فقال : نعم . وذكر الحديث .

و (قوله : " فحج آدم موسى ") أي : غلبه بالحجة . يقال : حاججت فلانا فحججته ، أي : غلبته .

[ ص: 666 ] و (قوله : " أنت آدم الذي خلقك الله بيده ") هو استفهام تقرير وإضافة الله خلق آدم إلى يده إضافة تشريف ، ويصح أن يراد باليد هنا : القدرة والنعمة ، إذ كلاهما موجود في اللسان مستعمل فيه ، فأما يد الجارحة فالله منزه عن ذلك قطعا .

و (قوله : " ونفخ فيك من روحه ) يحتمل أن تكون (من) زائدة على المذهب الكوفي . ونفخ : بمعنى خلق ، أي : خلق فيك روحه ، فأضاف الروح إليه على جهة الملك تخصيصا وتشريفا ، كما قال : بيتي ، وعبادي . واستعار لـ (خلق) : نفخ ، لأن الروح من نوع الريح ، ويحتمل تأويلا آخر ، والله بمراده أعلم ، والتسليم للمتشابهات أسلم ، وهي طريقة السلف وأهل الاقتداء من الخلف .

و (قوله في الأم : " أنت الذي خيبتنا ، وأخرجتنا من الجنة ") أي : كنت سبب ذلك كله ، وقال في رواية أخرى : " أنت الذي أغويت الناس " أي : كنت سبب غواية من غوى منهم ، والغواية ضد الرشد ، كما قال الله تعالى : قد تبين الرشد من الغي [البقرة: 256] وقد يراد بها الخطأ ، وعليها يحمل : وعصى آدم ربه فغوى [طه: 121] أي : أخطأ صواب ما أمر به ، وهذا أحسن ما قيل في ذلك ، إن شاء الله تعالى .

و (قوله : " وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ") يعني : الألواح التي قال الله تعالى فيها : وكتبنا له في الألواح من كل شيء [الأعراف: 145] وهي [ ص: 667 ] جمع لوح ، بفتح اللام ، وسمي بمصدر لاح الشيء يلوح لوحا : إذا ظهر ، وسمي بذلك لظهور ما يكتب فيه . فأما اللوح - بضم اللام - فهو ما بين السماء والأرض . قال مجاهد : كانت الألواح سبعة من زمردة خضراء . وقال ابن جبير : من ياقوتة حمراء . ومعنى كتبنا : أمرنا من يكتب ، أو خلق فيها قوما وخطوطا مكتوبة مثل الذي يكتب بالأقلام . وقوله : من كل شيء أي : كل شيء قصد إلى تبيينه ، أو من كل نوع شيئا ، أو من كل أصل فرعا .

و (قوله : " وقربك نجيا ") أي : للمناجاة وهي : المسارة . والتقريب : بالمرتبة ، لا بالموضع والمكان .

و (قوله : " أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة " . قال : فحج آدم موسى ) ظاهر هذا أن آدم إنما غلب موسى بالحجة ؛ لأنه اعتذر بما سبق له من القدر عما صدر عنه من المخالفة ، وقبل عذره ، وقامت بذلك حجته ؛ فإن صح هذا لزم عليه أن يحتج به كل من عصى ويعتذر بذلك فيقبل عذره ، وتثبت حجته ، فحينئذ تكون للعصاة على الله حجة ، وهو مناقض لقوله تعالى : فلله الحجة البالغة [الأنعام: 149] وقد اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث فقيل : إما غلبه آدم بالحجة ، لأن آدم أبو موسى ، وموسى ابن ، ولا يجوز لوم الابن أباه ، ولا عتبه .

[ ص: 668 ] قلت : وهذا نأي عن معنى الحديث ، وعما سيق له ، وقيل : إنما كان ذلك لأن موسى قد كان علم من التوراة أن الله تعالى قد جعل تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة ، وسكناه الأرض ، ونشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي .

قلت : وهذا إبداء حكمة تلك الأكلة ، لا انفصال عن إلزام تلك الحجة ، والسؤال باق لم ينفصل عنه .

وقيل : إنما توجهت حجته عليه لأنه قد علم من التوراة ما ذكروا أن الله تاب عليه واجتباه وأسقط عنه اللوم والعتب . فلوم موسى وعتبه له - مع علمه بأن الله تعالى قدر المعصية وقضى بالتوبة ، وبإسقاط اللوم والمعاتبة ، حتى صارت تلك المعصية كأن لم تكن - وقع في غير محله ، وعلى غير مستحقه ، وكان هذا من موسى نسبة جفاء في حالة صفاء ، كما قال بعض أرباب الإشارات : ذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء . وهذا الوجه إن شاء الله أشبه ما ذكر ، وبه يتبين أن ذلك الإلزام لا يلزم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية