المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4816 (11) باب في الأمر بالتقوى والحرص على ما ينفع وترك التفاخر

[ 2591 ] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان".

رواه أحمد ( 2 \ 366 )، ومسلم (2664)، وابن ماجه (4168).


(11) ومن باب : الأمر بالتقوى والحرص على ما ينفع

(قوله : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ") أي : القوي البدن والنفس ، الماضي العزيمة ، الذي يصلح للقيام بوظائف العبادات من الصوم ، والحج ، والجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والصبر على ما يصيبه في ذلك ، وغير ذلك مما يقوم به الدين ، وتنهض به كلمة المسلمين ، فهذا هو الأفضل والأكمل ، وأما من لم يكن كذلك من المؤمنين ، ففيه خير من حيث كان مؤمنا ، قائما بالصلوات ، مكثرا لسواد المسلمين ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " وفي كل خير " لكنه قد فاته الحظ الأكبر ، والمقام الأفخر .

و (قوله : " احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ، ولا تعجز ") أي : استعمل الحرص والاجتهاد في تحصيل ما تنتفع به في أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك ، وصيانة عيالك ، ومكارم أخلاقك ، ولا تفرط في طلب ذلك ، ولا تتعاجز عنه متكلا على القدر ، فتنسب للتقصير ، وتلام على التفريط شرعا وعادة . ومع إنهاء الاجتهاد نهايته ، وإبلاغ الحرص غايته ، فلا بد من الاستعانة [ ص: 683 ] بالله ، والتوكل عليه ، والالتجاء في كل الأمور إليه ، فمن سلك هذين الطريقين حصل على خير الدارين .

و (قوله : " وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا . قل : قدر الله ، وما شاء فعل ") يعني : إن الذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله ، والرضا بما قدره الله تعالى ، والإعراض عن الالتفات لما مضى وفات . فإن افتكر فيما فاته من ذلك وقال : لو أني فعلت كذا لكان كذا ، جاءته وساوس الشيطان ، ولا تزال به حتى تفضي به إلى الخسران ؛ لتعارض توهم التدبير سابق المقادير ، وهذا هو عمل الشيطان الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " فلا تقل : لو ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " . ولا يفهم من هذا : أنه لا يجوز النطق بـ (لو) مطلقا ؛ إذ قد نطق بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، ولجعلتها عمرة " . و " لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت هذه " . وقال أبو بكر - رضي الله عنه - : لو أن أحدهم نظر إلى رجليه لرآنا . ومثله كثير ، لأن محل النهي عن إطلاقها إنما هو فيما إذا أطلقت في معارضة القدر ، أو مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور ، فأما لو أخبر بالمانع على جهة أن تتعلق به فائدة في المستقبل ، فلا يختلف في جواز إطلاقه ؛ إذ ليس في ذلك فتح لعمل الشيطان ، ولا شيء يفضي إلى ممنوع ، ولا حرام ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية