المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4821 (2) باب كراهة الخصومة في الدين والغلو في التأويل والتحذير من اتباع الأهواء

[ 2594 ] عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" .

رواه أحمد ( 6 \ 55 )، والبخاري (2457)، ومسلم (2668)، والترمذي (2976)، والنسائي ( 8 \ 247 ).


[ ص: 689 ] (2) ومن باب : كراهة الخصومة في الدين والغلو في التأويل والتحذير من اتباع الأهواء

قوله : " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ") الرواية الخصم - بسكون الصاد - وقد قيده بعضهم بكسرها ، وكلاهما اسم للمخاصم ، غير أن الذي بالسكون هو مصدر في الأصل ، وضع موضع الاسم ؛ ولذلك يكون في المذكر والمؤنث ، والتثنية والجمع بلفظ واحد في الأكثر ، ومن العرب من يثنيه ويجمعه ، لأنه يذهب به مذهب الاسم ، وقد جاءت اللغتان في كتاب الله تعالى ، قال الله تعالى : وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب [ص: 21] ثم قال : خصمان بغى بعضنا على بعض [ص: 22] فأما الذي بالكسر فهو الشديد الخصومة ، ويجمع : خصم ، فيقال : خصم ، وخصم خصمون ، كما قال تعالى : هم قوم خصمون [الزخرف: 58] والألد : هو الشديد الخصومة ، مأخوذ من اللديدين ، وهما جانبا الوادي ، لأنه كلما أخذ عليه جانب أخذ في جانب آخر ، وقيل : لإعماله [ ص: 690 ] لديديه ، وهما : صفحتا عنقه ، عند خصومته . وكان حكم الألد أن يكون تابعا للخصم ، لأن الألد صفة ، والخصم اسم ، لكن لما كان (خصم) مصدرا في الأصل ، وكان الألد صفة مشهورة ، عكس الأمر ، فجعل التابع متبوعا ، وهذا على نحو قوله : وغرابيب سود [فاطر: 27] وإنما يقال : أسود غربيب . وهذا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته : مدافعة الحق ، ورده بالأوجه الفاسدة ، والشبه الموهمة ، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين ، كخصومة أكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وسلف أمته ، إلى طرق مبتدعة ، واصطلاحات مخترعة ، وقوانين جدلية ، وأمور صناعية ، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية ، أو مناقشات لفظية ترد بشبهها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها ، وشكوك يذهب الإيمان معها ، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم لا أعلمهم ، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها! وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها! ثم إن هؤلاء المتكلمين قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البله ، ولا الأطفال ، لما بحثوا عن تحيز الجواهر ، والأكوان والأحوال ، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السلف الصالح ، ولم يوجد عنهم فيه بحث واضح ، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى ، وتقديرها ، واتخاذها في أنفسها ، وأنها هي الذات ، أو غيرها ، وأن الكلام ، هل هو متحد ، أو منقسم ؛ وإذا كان منقسما فهل ينقسم بالأنواع أو بالأوصاف ؛ وكيف تعلق في الأزل بالمأمور ؛ ثم إذا انعدم المأمور فهل يبقى ذلك التعلق ؛ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو عين الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة التي لم يأمر الشرع بالبحث عنها ، وسكت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن سلك سبيلهم ، عن الخوض فيها ؛ لعلمهم بأنها بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته ؛ فإن العقول لها حد تقف عنده ، وهو العجز عن التكييف لا يتعداه ، ولا فرق بين البحث في كيفية الذات وكيفية الصفات ، ولذلك قال العليم الخبير : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ ص: 691 ] [الشورى: 11] ولا تبادر بالإنكار فعل الأغبياء الأغمار ؛ فإنك قد حجبت عن كيفية حقيقة نفسك مع علمك بوجودها ، وعن كيفية إدراكاتك ، مع أنك تدرك بها . وإذا عجزت عن إدراك كيفية ما بين جنبيك ، فأنت عن إدراك ما ليس كذلك أعجز . وغاية علم العلماء وإدراك عقول الفضلاء أن يقطعوا بوجود فاعل هذه المصنوعات منزه عن صفاتها ، مقدس عن أحوالها ، موصوف بصفات الكمال اللائق به .

ثم مهما أخبرنا الصادقون عنه بشيء من أوصافه وأسمائه ، قبلناه واعتقدناه ، وما لم يتعرضوا له سكتنا عنه ، وتركنا الخوض فيه . هذه طريقة السلف ، وما سواها مهاو وتلف ، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما قد ورد في ذلك عن الأئمة المتقدمين ، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر الشغل ، والدين قد فرغ منه ، ليس بأمر يؤتكف على النظر فيه . وقال مالك : ليس هذا الجدال من الدين في شيء . وقال : كان يقال : لا تمكن زائغ القلب من أذنك ؛ فإنك لا تدري ما يعلقك من ذلك . وقال الشافعي : لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ، ما عدا الشرك ، خير له من أن ينظر في علم الكلام . وإذا سمعت من يقول : الاسم هو المسمى ، أو غير المسمى ، فاشهد أنه من أهل الكلام ، ولا دين له . قال : وحكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام . وقال الإمام أحمد بن حنبل : لا يفلح صاحب الكلام أبدا ، علماء الكلام زنادقة . وقال ابن عقيل : قال بعض أصحابنا : أنا أقطع أن الصحابة - رضي الله عنهم - ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض ، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن ، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر ، فبئس ما رأيته . قال : وقد أفضى هذا الكلام بأهله إلى الشكوك ، وبكثير [ ص: 692 ] منهم إلى الإلحاد ، وأصل ذلك : أنهم ما قنعوا بما بعثت به الشرائع ، وطلبوا الحقائق ، وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكم التي انفرد بها ، ولو لم يكن في الجدال إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه الضلال ، كما قال فيما خرجه الترمذي : " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل " ، وقال : إنه صحيح .

قلت : وقد رجع كثير من أئمة المتكلمين عن الكلام بعد انقضاء أعمار مديدة ، وآماد بعيدة ، لما لطف الله تعالى بهم ، وأظهر لهم آياته ، وباطن برهانه ، فمنهم : إمام المتكلمين أبو المعالي ، فقد حكى عنه الثقات أنه قال : لقد خليت أهل الإسلام وعلومهم ، وركبت البحر الأعظم ، وغصت في الذي نهوا عنه ، كل ذلك رغبة في طلب الحق ، وهربا من التقليد ، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق ، عليكم بدين العجائز ، وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص ، والويل لابن الجويني .

وكان يقول لأصحابه : يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به .

وقال أحمد بن سنان : كان الوليد بن أبان الكرابيسي ، خالي ، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه : تعلمون أحدا أعلم مني ؟ قالوا : لا ، قال : فتتهموني ؟ قالوا : لا ، قال : فإني أوصيكم ، أفتقبلون ؟ قالوا : نعم . قال : عليكم بما عليه أصحاب الحديث ، فإني رأيت الحق معهم .

وقال أبو الوفا بن عقيل : لقد بالغت في الأصول طول عمري ، ثم عدت القهقرى إلى مذهب المكتب .

[ ص: 693 ] قلت : وهذا الشهرستاني صاحب " نهاية الإقدام في علم الكلام " وصف حاله فيما وصل إليه من الكلام وما ناله ، فتمثل بما قاله :


لعمري لقد طفت المعاهد كلها وصيرت طرفي بين تلك المعالم     فلم أر إلا واضعا كف حائر
على ذقن أو قارعا سن نادم

ثم قال : عليكم بدين العجائز ؛ فإنه أسنى الجوائز .

قلت : ولو لم يكن في الكلام شيء يذم به إلا مسألتان هما من مبادئه ، لكان حقيقا بالذم ، وجديرا بالترك .

إحداهما : قول طائفة منهم : إن أول الواجبات الشك في الله تعالى .

والثانية : قول جماعة منهم : إن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها ، والأبحاث التي حرروها ، فلا يصح إيمانه ، وهو كافر .

فيلزمهم على هذا تكفير أكثر المسلمين من السلف الماضين ، وأئمة المسلمين ، وأن من يبدأ بتكفيره أباه وأسلافه وجيرانه ، وقد أورد على بعضهم هذا ، فقال : لا يشنع علي بكثرة أهل النار ، وكما قال ، ثم إن من لم يقل بهاتين المسألتين من المتكلمين ردوا على من قال بهما بطرق النظر والاستدلال بناء منهم على أن هاتين المسألتين نظريتان ، وهذا خطأ فاحش ، فالكل يخطئون الطائفة الأولى بأصل القول بالمسألتين ، والثانية بتسليم أن فسادها ليس بضروري ، ومن شك في تكفير من قال : إن الشك في الله تعالى واجب ؛ وأن معظم الصحابة والمسلمين كفار ، فهو كافر شرعا ، أو مختل العقل وضعا ؛ إذ كل واحدة منهما معلومة الفساد بالضرورة الشرعية الحاصلة بالأخبار المتواترة القطعية ، وإن لم يكن [ ص: 694 ] كذلك فلا ضروري يصار إليه في الشرعيات ولا العقليات . عصمنا الله من بدع المبتدعين ، وسلك بنا طرق السلف الماضين . وإنما طولت في هذه المسألة الأنفاس ؛ لما قد شاع من هذه البدع في الناس ، ولأنه قد اغتر كثير من الجهال بزخرف تلك الأقوال ، وقد بذلت ما وجب علي من النصيحة ، والله تعالى يتولى إصلاح القلوب الجريحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية