المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5325 (10) باب تقليل الحديث حال الرواية وتبيانه

[ 2610 ] عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال: كان أبو هريرة يحدث ويقول: اسمعي يا ربة الحجرة، وعائشة تصلي، فلما قضت صلاتها قالت لعروة: ألا تسمع لهذا ومقالته آنفا؛ إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه.

رواه البخاري (3567)، ومسلم (2493) في الزهد (7).


[ ص: 709 ] (10 و 11) ومن باب : تقليل الحديث حال الرواية وتبيانه

قد تقدم القول في تقارب الزمان ، وفي الشح .

( قول أبي هريرة : اسمعي يا ربة الحجرة ) يعني عائشة - رضي الله عنها - كان ذلك منه ليسمعها ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إما ليذكرها بما تعرفه ، أو يفيدها بما لم تسمعه ، فقد كان أبو هريرة - رضي الله عنه - يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن لم تكن تحضرها عائشة - رضي الله عنها - ، بل قد كان لأبي هريرة - رضي الله عنه - من الملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في مناقبه ، ما لم يكن لغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - ثم قد اتفق له من الخصوصية التي أوجبت له الحفظ ما لم يتفق لغيره ، فكان عنده من الحديث ما لم يكن عند عائشة ، لكن عائشة أنكرت عليه سرده للحديث والإكثار منه في المجلس الواحد ؛ لذلك قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث سردكم ، إنما كان يحدث حديثا ، لو عده العاد لأحصاه . وقد سلك هذا المسلك كثير من السلف ؛ وكانوا لا يزيدون على عشرة [ ص: 710 ] أحاديث ليست بطوال في المجلس الواحد ، وقد كره الإكثار من الأحاديث كثير من السلف ؛ مخافة ما يكون في الإكثار من الآفات . روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد عاب كثير من الصحابة على أبي هريرة الإكثار من الحديث حتى احتاج أبو هريرة إلى الاعتذار عن ذلك ، والإخبار بموجب ذلك ، قال : إن ناسا يقولون : أكثر أبو هريرة ، ولولا آية في كتاب الله ما حدثت حديثا . ثم قال : إن إخواننا من الأنصار كان شغلهم العمل في أموالهم ، وإن إخواننا من المهاجرين كان شغلهم الصفق بالأسواق ، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني ، أحضر ما لا يحضرون ، وأحفظ ما لا يحفظون . ودخل مالك على ابني أخته أبي بكر وإسماعيل بن أبي أويس ، وهما يكتبان الحديث ، فقال لهما : إن أردتما أن ينفعكما الله بهذا الأمر ، فأقلا منه ، وتفقها . ولقد جاء عن شعبة أنه قال لكتبة الحديث : إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون . قال أبو الحسن القابسي - رحمه الله - : يريد شعبة بقوله هذا عيب تكثير الروايات ؛ لما قد دخل على المكثرين من اختلاط الأحاديث ، وغير ذلك ، فيصيرون بالتكلف إلى أن يتقولوا على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل .

قلت : ويظهر لي من قول شعبة أنه قصد تحذير من غلبت عليه شهوة كتب الحديث وروايته ، حتى يحمله ذلك على التفريط في متأكد المندوبات من [ ص: 711 ] الصلوات والأذكار والدعوات ؛ حرصا على الإكثار وقضاء للشهوات والأوطار .

قلت : وهذه وصايا السلف وسير أئمة الخلف ، قد نبذها أهل هذه الأزمان ، وانتحلوا ضروبا من الهذيان ، فترى الواحد منهم كحاطب ليل ، وكجالب رجل وخيل ، فيأخذ عمن أقبل وأدبر من العوام ، وممن لم يشعر بشيء قط من هذا الشأن ، غير أنه قد وجد اسمه في طبق السماع على فلان ، أو أجاز له فلان ، وإن كان في ذلك الوقت في سن من لا يفعل من الصبيان ، ويسمون مثل ذلك بالسند العالي ؛ وإن كان باتفاق السلف وأهل العلم في أسفل سفال ، وكل ذلك قصد من كثير منهم إلى الإكثار ، ولأن يقال : انفرد فلان بعالي الروايات والآثار . ومن ظهر منه أنه على تلك الحال فالأخذ عنه حرام وضلال ، بل الذي يجب الأخذ عنه من اشتهر بالعلم والإصابة والصدق والصيانة ممن قيد كتب الحديث المشهورة ، والأمهات المذكورة التي مدار الأحاديث عليها ، ومرجع أهل الإسلام إليها ، فيعارض كتابه بكتابه ، ويقيد منه ما قيده ، ويهمل ما أهمله ، فإن كان ذلك الكتاب ممن شرط مصنفه الصحة كمسلم والبخاري ، أو ميز بين الصحيح وغيره كالترمذي ، وجب التفقه في ذلك والعمل به ، وإن لم يكن كذلك وجب التوقف إلى أن يعلم حال أولئك الرواة ، إما بنفسه إن كانت له أهلية البحث في الرجال ، وإما بتقليد من له أهلية ذلك ، فإذا حصل ذلك وجب التفقه والعمل ، وهو المقصود الأول ، وعليه المعول . وكل ما قبله طريق موصل إليه ، ومحوم عليه . وإن من علامات عدم التوفيق البقاء في الطريق من غير وصول إلى المقصود على التحقيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية