المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4932 [ 2667 ] ومن حديث أنس : فأخذ بخطامها فقال من شدة الفرح : اللهم ، أنت عبدي وأنا ربك . أخطأ من شدة الفرح .

رواه أحمد (3 \ 213) ، والبخاري (6309) ، ومسلم (2747) (7) .


[ ص: 69 ] (38)

كتاب الرقاق

(1 و 2) ومن باب وجوب التوبة وفضلها

قد تقدم القول في وجوب التوبة ، وفي معناها اللغوي ، وقد اختلفت عبارات العلماء والمشايخ فيها ، فقائل يقول : إنها الندم ، وآخر يقول : إنها العزم على ألا يعود ، والآخر يقول : إنها الإقلاع عن الذنب ، ورابع يجمع بين تلك الأمور الثلاثة ، فيقول : إنها الندم على ذنب وقع ، والإقلاع عنه في الحال ، والعزم على ألا يعود إليه ، وهذا أكملها ، غير أنه مع ما فيه من التركيب المحذور في الحدود غير مانع ولا جامع .

[ ص: 70 ] بيان الأول : أنه قد يندم ، ويقلع ، ويعزم ، ولا يكون تائبا شرعا ، إذ قد يفعل ذلك شحا على ماله ، أو لئلا يعيره الناس من ذلك . ولا تصح التوبة الشرعية إلا بالنية والإخلاص ; فإنها من أعظم العبادات الواجبات ، ولذلك قال تعالى : توبوا إلى الله توبة نصوحا [ التحريم : 8 ]

وأما الثاني : فبيانه أنه يخرج منه من زنى مثلا ، ثم قطع ذكره ، فإنه لا يتأتى منه غير الندم على ما مضى من الزنى ، وأما العزم والإقلاع فغير متصورين منه ، ومع ذلك فالتوبة من الزنى صحيحة في حقه إجماعا ، وبهذا اغتر من قال : إن الندم يكفي في حد التوبة ، وليس بصحيح ; لأنه لو ندم ولم يقلع ، وعزم على العود ، لم يكن تائبا اتفاقا ، ولما فهم بعض المحققين هذا حد التوبة بحد آخر ، فقال : هي ترك اختيار ذنب سبق منك مثله ، حقيقة أو تقديرا ; لأجل الله تعالى ، وهذا أسد العبارات وأجمعها ، وبيان ذلك : أن التائب لا بد أن يكون تاركا للذنب ، غير أن ذلك الذنب الماضي قد وقع ، وفرغ منه ، فلا يصح تركه ; إذ هو غير متمكن من عينه لا تركا ولا فعلا ، وإنما هو متمكن من مثله حقيقة ، وهو زنى آخر مثلا ، فلو جب لم تصح منه حقيقة الزنى ، بل : الذي يصح منه أن يقدر أنه لو كان متمكنا من الزنى لتركه . فلو قدرنا من لم يقع منه ذنب لم يصح منه إلا اتقاء ما يمكن أن يقع ، لا ترك مثل ما وقع ، فيكون متقيا لا تائبا ، فتدبر هذا .

و (قوله : لأجل الله تعالى) تحرز من ترك ذلك لغير الله تعالى ; إذ ذلك لا يكون تائبا اتفاقا ، فلا يكون فعله ذلك توبة ، وهذا واضح ، وإذا تقرر هذا فاعلم أن الباعث على التوبة تنبيه إلهي ينبه به من أراد سعادته لقبح الذنوب وضررها ; فإنها سموم مهلكة تفوت على الإنسان سعادة الدنيا والآخرة ، وتحجبه عن معرفة الله تعالى في الدنيا ، وعن تقريبه وكرامته في الدار الآخرة . ومن انكشف له هذا ، وتفقد نفسه وجد نفسه مشحونة بهذا السم ، ومملوءة بهذه الآفات ، فلا شك في أن [ ص: 71 ] من حصل له علم ذلك ، انبعث منه خوف هجوم الهلاك ، فتتعين عليه المبادرة لطلب أمر يدفع به عن نفسه ضرر ما يتوقعه ويخافه . فحينئذ ينبعث منه الندم على ما فرط ، وترك مثل ما سبق ; مخافة عقوبة الله تعالى ، فيصدق عليه أنه تائب ، فإن لم يكن كذلك كان مصرا على المعصية ، وملازما لأسباب الهلكة .

ثم اعلم بعد هذا : أن الذنوب إما كفر ، وإما غيره ، فتوبة الكافر عند موته مقطوع بعدم قبولها ، وما عداها فمقبولة إن شاء الله ، بوعده الصدق ، وقوله الحق .

وأعني بالقبول : الخلاص من ضرر الذنوب حتى يرجع كمن لم يعمل ذنبا ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " . ثم إن الذنب الذي يتاب منه إما حق لله تعالى ، وإما حق لغيره ، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك الذي ذكرناه ، غير أن منها : ما لم يكتف الشرع منه بمجرد الترك ، بل : أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء ، كالصلاة والصوم ، ومنها : ما أضاف إليها كفارة ، كالحنث في الأيمان والظهار وغير ذلك ، فلا يرتفع ضرر ذلك الذنب إلا بتركه وفعل ما أمره الله تعالى به من القضاء والكفارة . وأما حقوق الآدميين ، فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها ، فإن لم توصل إلى أربابها لم يتخلص من ضرر ذلك الذنب إلا بتركه وفعل ما أمره الله به ، ومن اجتهد في الخروج عن الحقوق ، فلم يقدر على الخروج منها ، فعفو الله مأمول ، وفضله مبذول ، وكم ضمن من التبعات ، وكم بذل من السيئات بالحسنات ، وتفصيل ما أجملناه موجود في كتب مشايخ الإسلام ، رحمهم الله .

و (قوله : " لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة . . . الحديث ") هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله تعالى لتوبة عبده التائب [ ص: 72 ] فإنه يقبل عليه بمغفرته ورحمته ، ويعامله معاملة من يفرح به . ووجه هذا المثل : أن العاصي حصل بسبب معصيته في قبضة الشيطان وأسره . وقد أشرف على الهلاك . فإذا لطف الله تعالى به ، وأرشده للتوبة ، خرج من شؤم تلك المعصية ، وتخلص من أسر الشيطان ، ومن المهلكة التي أشرف عليها ، فأقبل الله تعالى عليه برحمته ومغفرته ، وبادر إلى ذلك مبادرة هذا الذي قد انتهى به الفرح ، واستفزه السرور إلى أن نطق بالمحال ، ولم يشعر به لشدة سروره وفرحه ، وإلا فالفرح الذي هو من صفاتنا محال على الله تعالى ; لأنه اهتزاز وطرب يجده الإنسان من نفسه عند ظفره بغرض يستكمل به الإنسان نقصانه ، ويسد به خلته ، أو يدفع عن نفسه ضررا ، أو نقصا ، وكل ذلك محال على الله تعالى ، فإنه الكامل بذاته ، الغني بوجوده ، الذي لا يلحقه نقص ولا قصور ، لكن هذا الفرح عندنا له ثمرة وفائدة ، وهو الإقبال على الشيء المفروح به ، وإحلاله المحل الأعلى ، وهذا هو الذي يصح في حقه تعالى ، فعبر عن ثمرة الفرح بالفرح على طريقة العرب في تسميتها الشيء باسم ما جاوره ، أو كان منه بسبب . وقد قدمنا أن ذلك القانون جار في كل ما أطلقه الله تعالى على نفسه من الصفات التي لا تليق به ، كالغضب والرضا والضحك ، وغير ذلك .

و (قوله : " دوية مهلكة ") الرواية المشهورة بفتح الدال ، وتشديد الواو المكسورة ، وتشديد الياء مفتوحة ، وهي : القفر والفلاة . وجمعها : داوي . قال [ ص: 73 ] الخليل : الداوية : المفازة . وقال الهروي في خطبة الحجاج :


قد لفها الليل بعصلبي أروع خراج من الداوي

قال : يعني الفلوات . الواحدة : داوية . في الصحاح : الدو والدوي : المفازة ، وكذلك الدوية ، لأنها مفازة مثلها ، فنسبت إليها ، قال : والدو أيضا موضع ، وهو من أرض العرب . وربما قالوا : داوية ، قلبوا الواو الأولى الساكنة ألفا لانفتاح ما قبلها ، ولا يقاس عليه .

و (قوله : " مهلكة ") الرواية بفتح الميم واللام ، أي : يهلك فيها ، وقد قيد مهلكة بضم الميم وكسر اللام ، اسم فاعل ، أي : يهلك من يدخل فيها ، وإنما سميت القفر المفازة من قولهم : فوز الرجل : إذا هلك . وقيل : بل على طريق التفاؤل ، كما يقال للديغ : سليم .

و (قول الحارث بن سويد : حدثني عبد الله حديثين ، أحدهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآخر عن نفسه) . ثم حدث بالحديث الذي ذكرناه في التوبة . ولم يذكر مسلم الحديث الأول الذي حدث به نفسه ، وقد ذكره البخاري والترمذي وغيرهما ، فقال : المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ، والفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا ، فهذا هو الذي حدثه ابن مسعود عن نفسه ، لا أنه رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو صحيح المعنى ، يشهد له ما في الوجود من خوف المؤمن ، وتهاون الفاجر والمنافق .

التالي السابق


الخدمات العلمية