المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
4967 (6) باب

لا ييأس من قبول التوبة

ولو قتل مائة نفس

[ 2683 ] عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب ، فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا ، فهل له من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل عالم فقال : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناسا يعبدون الله ، فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء . فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط ، فأتاهم ملك في صورة آدمي ، فجعلوه بينهم ، فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة . قال قتادة : قال الحسن : ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره . وزاد في أخرى : فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي .

رواه أحمد (3 \ 20) ، والبخاري (347) ، ومسلم (2766) (46 و 48) ، وابن ماجه (2622) .


[ (6) ومن باب : لا ييأس من قبول التوبة ولو قتل مائة نفس ]

(قول الراهب لقاتل التسعة والتسعين : إنه لا توبة له) . دليل على : قلة علم [ ص: 90 ] ذلك الراهب ، وعدم فطنته ، حيث لم يصب وجه الفتيا ، ولا سلك طريق التحرز على نفسه ، ممن صار القتل له عادة معتادة ، فقد صار هذا مثل الأسد الذي لا يبالي بمن يفترسه ، فكان حقه ألا يشافهه بمنع التوبة مداراة لدفع القتل عن نفسه ، كما يداري الأسد الضاري ، لكنه أعان على نفسه ، فإنه لما آيسه من رحمة الله وتوبته قتله ، بحكم سبعيته ويأسه من رحمة الله وتوبته عليه ، ولما لطف الله به بقي في نفسه الرغبة في السؤال عن حاله . فما زال يبحث إلى أن ساقه الله تعالى إلى هذا الرجل العالم الفاضل ، فلما سأله نطق بالحق والصواب ، فقال له : ومن يحول بينك وبينها ؟ مفتيا ومنكرا على من ينفيها عنه ، ثم إنه أحاله على ما ينفعه ، وهو مفارقته لأرضه التي كانت غلبت عليه بحكم عادة أهلها الفاسدة ، ولقومه الذين كانوا يعينونه على ذلك ، ويحملونه عليه . وبهذا يعلم فضل العلم على العبادة ، فإن الأول غلبت عليه الرهبانية . واغتر بوصف الناس له بالعلم ، فأفتى بغير علم ، فهلك في نفسه وأهلك غيره .

والثاني كان مشتغلا بالعلم ومعتنيا به ، فوفق للحق ، فأحياه الله في نفسه ، وأحيا به الناس . قال القاضي : ومذهب أهل السنة والجماعة أن التوبة تكفر القتل كسائر الذنوب ، وهو قول كافة العلماء ، وما روي عن بعضهم من تشديد في الزجر وتورية في القول فإنما ذلك ; لئلا يجترئ الناس على الدماء ، وقد اختلف في قوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها [ النساء : 93 ] فقيل : معناه : إن جازاه ، وقيل : الخلود : طول الإقامة لا التأبيد ، وقيل : الآية في رجل بعينه قتل رجلا له عليه دم بعد أخذ الدية ، ثم ارتد ، وقد تقدم القول على أن كل ما دون الشرك يجوز أن يغفره الله تعالى ، وأنه ليس من ذلك شيء كفرا ، قتلا كان أو ترك صلاة أو غيرها ، كما دل عليه قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] ولقوله في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - : " تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ، ولا [ ص: 91 ] تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، فمن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به ، فهو كفارة له ، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه ، فأمره إلى الله ، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عذبه . ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة أيضا : " خمس صلوات افترضهن الله عز وجل على العباد ، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا ، كان له عند الله عهد أن يغفر له ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه " . وهذه حجج صريحة تبين فساد مذهب المكفرة بشيء من ذلك .

و (قوله : " نصف الطريق ") أي : بلغ نصفه ، يقال : نصف الماء والشجرة وغيرهما : إذا بلغ نصف ذلك .

و (قوله : نأى بصدره ) أي : نهض به مع ثقل ما أصابه من الموت ، وذلك دليل على صحة توبته وصدق رغبته .

و (قوله : " فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : إنه جاء تائبا مقبلا بقلبه ") . هذا نص صريح في أن الله تعالى أطلع ملائكة الرحمة على ما في قلبه من صحة قصده إلى التوبة وحرصه عليها ، وأن ذلك خفي على ملائكة العذاب حتى قالت : إنه لم يعمل خيرا قط . ولو اطلعت على ما في قلبه من التوبة ، لما صح لها أن تقول هذا ، ولا تنازع ملائكة الرحمة في قولها : إنه [ ص: 92 ] جاء تائبا مقبلا بقلبه ، بل شهدت بما في علمها ، كما شهد الآخرون بما تحققوه . لكن شهادة ملائكة الرحمة على إثبات ، وشهادة ملائكة العذاب على عدم علم ، وشهادة الإثبات مقدمة . فلا جرم لما تنازع الصنفان وخرج كلاهما عن الشهادة إلى الدعاوى ، بعث الله إليهما ملكا حاكما يفصل بينهما ، وصوره بصورة الآدمي ، إخفاء عن الملائكة وتنويها ببني آدم ، وأن منهم من يصلح لأن يفصل بين الملائكة إذا تنازعوا .

و (قوله : " فجعلوه بينهم ") فيه حجة لمالك على قوله : إن المتخاصمين إذا حكما بينهما رجلا يصلح للتحكيم لزمهما ما يحكم به ، وقد خالفه في ذلك الشافعي .

و (قوله : " فقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ") . دليل على أن الحاكم إذا تعارضت الأقوال عنده ، وتعذرت الشهادات ، وأمكنه أن يستدل بالقرائن على ترجيح بعض الدعاوى ، نفذ الحكم بذلك ، كما فعله سليمان عليه السلام حيث قال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما .

تنبيه : قال القاضي : جعل الله قربه من القرية علامة للملك عند اختلافهم مع عدمهم معرفة حقيقة باطنه التي اطلع الله عليها ، ولو تحققوا توبته لم يختلفوا ولم يحتاجوا للمقايسة .

قلت : وهذه غفلة منه عن قول ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله عز وجل . وهذا نص في أن ملائكة الرحمة علمت ما في قلبه ، فلو علمت [ ص: 93 ] ملائكة العذاب ما في قلبه لما تنازعوا ; لأن الملائكة كلهم لا يخفى عليهم أن التوبة إذا صحت في القلب ، وعمل على مقتضاها بالجوارح بالقدر الممكن ، مقبولة بفضل الله تعالى ، ووعده الصادق ، والأحسن ما ذكرناه إن شاء الله تعالى ، وإنما جعل الله قرب تلك الأرض سببا مرجحا لحجة ملائكة الرحمة ، ومصدقا لصحة التوبة ، وفيه دليل على أن أعمال الظاهر عنوان على الباطن .

و (قوله : " فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي ") . إنما كان ذلك لما حكم الحاكم بقياس الأرض . ويفهم منه أن الرجل كان أقرب إلى الأرض التي خرج منها ، فلو ترك الله الأرض على حالها ، لقبضته ملائكة العذاب ، لكن غمرته الألطاف الإلهية ، وسبقت له العناية الأزلية ، فقربت البعيد ، وألانت الحديد . ويستفاد منه أن الذنوب وإن عظمت ، فعفو الله أعظم منها ، وأن من ألهم صدق التوبة . فقد سلك به طريق اللطف والقربة .

التالي السابق


الخدمات العلمية