المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
5265 (5) باب

في الابتلاء بالدنيا وكيف يعمل فيها

[ 2696 ] عن أبي هريرة ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن ثلاثة في بني إسرائيل : أبرص ، وأقرع ، وأعمى ، فأراد الله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكا ، فأتى الأبرص فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه قذره ، وأعطي لونا حسنا ، وجلدا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل - (أو قال : البقر ، شك إسحاق - إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما : الإبل وقال الآخر : البقر) قال : فأعطي ناقة عشراء فقال : بارك الله لك فيها . قال : فأتى الأقرع فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : شعر حسن ، ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه ، وأعطي شعرا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : البقر ، فأعطي بقرة حاملا فقال : بارك الله لك فيها . قال : فأتى الأعمى فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : أن يرد الله إلي بصري ، فأبصر به الناس ، قال : فمسحه فرد الله إليه بصره ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الغنم ، فأعطي شاة والدا ، فأنتج هذان وولد هذا . قال : فكان لهذا واد من الإبل ، ولهذا واد من البقر ، ولهذا واد من الغنم .

قال : ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن ، والجلد الحسن ، والمال ، بعيرا أتبلغ عليه في سفري ، فقال : الحقوق كثيرة ، فقال له : كأني أعرفك ، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا ، فأعطاك الله ؟ فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر ، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت .

قال : وأتى الأقرع في صورته ، فقال له مثل ما قال لهذا ، ورد عليه مثل ما رد على هذا ، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت .

قال : وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين ، وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري ، فخذ ما شئت ودع ما شئت ، فوالله لا أجهدك اليوم شيئا أخذته لله ، فقال : أمسك مالك ; فإنما ابتليتم ، فقد رضي عنك ، وسخط على صاحبيك .
رواه البخاري (3464) ، ومسلم (2964) .


[ ص: 117 ] و (قوله : " ناقة عشراء ") هي التي مضى لها من حملها عشرة أشهر ، وجمعها : عشار ، وكانت أنفس أموال العرب لقرب ولادتها ، ورجاء لبنها . وقال ابن جني : هي التي أتى عليها بعد وضعها عشرة أشهر . في الصحاح : العشار - بالكسر - جمع عشراء : وهي الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر ، وزال عنها اسم المخاض ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع ، وبعدما تضع أيضا . يقال : ناقتان عشراوان ، ونوق عشار ، وعشراوات ، يبدلون من همزة التأنيث واوا ، وقد عشرت الناقة تعشيرا : إذا صارت عشراء .

و (قوله : " فأنتج هذان ، وولد هذا ") أي : تولى نتاج ناقته وولادة شاته ، ووقع هنا (أنتج) رباعيا ، والمعروف الثلاثي ، وحكى الأخفش : نتجها وأنتجها ، بمعنى ، وقد أشبعنا القول فيه فيما تقدم .

[ ص: 118 ] و (قوله : " انقطعت بي الحبال في سفري ") الرواية المشهورة بالحاء المهملة والموحدة ، والباء المعجمة - بواحدة تحتها - وبالألف ، وهي : جمع حبل ، وهو المستطيل من الرمل ، وقيل : هي الأسباب التي يتوصل بها إلى البلاغ ، وهذا أوقع التفسيرين ، ورواهابن الحذاء : الحيل : جمع حيلة ، ورواه بعضهم كذلك غير أنه زاد الفاء ، ووقع لبعض رواة البخاري : الجبال ، بالجيم ، وفيه بعد .

و (قوله : " والله لا أجهدك اليوم شيئا أخذته لله ") كذا لأكثر الرواة ، ومعناه : [ ص: 119 ] لا أبلغ منك جهدا ومشقة في صنعك شيئا أخذته لله . قال صاحب " الأفعال " : جهدته وأجهدته : بلغت مشقته ، وقيل : معنى لا أجهدك : لا أقلل لك فيما تأخذ ، والجهد : ما يعيش به المقل ، ومنه : والذين لا يجدون إلا جهدهم [ التوبة : 79] وعند ابن ماهان : لا أحمدك ، بالحاء المهملة والميم ، من الحمد ، وكذا رواه البخاري ، ومعناه : لا أحمدك في أخذ شيء أو إبقائه ، لطيب نفسي بما تأخذ ، كما قال المرقش :


ليس على طول الحياة ندم . . . . . . . . . . . . . .

أي : ليس على فوت الحياة ندم .

و (قوله : " إنما ورثت هذا كابرا عن كابر ") أي : كبيرا عن كبير ، يعني : أنه ورث ذلك المال عن أجداده الكبراء ، فحمله بخله على نسيان منة الله تعالى ، وعلى جحد نعمه ، وعلى الكذب ، ثم أورثه ذلك سخط الله الدائم ، وكل ذلك بشؤم البخل . واعتبر بحال الأعمى لما اعترف بنعمة الله تعالى عليه ، وشكره عليها ، وسمحت نفسه بها ثبتها الله عليه ، وشكر فعله ورضي عنه ، فحصل على الرتب الفاخرة ، وجمعت له نعم الدنيا والآخرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية